ولكن عندما يعلم أن سبب نشوء موهم التعارض اختلاف الخطاب وأنه في الآية لأهل الكتاب(١) وفي الحديث للمشركين يندفع موهم التعارض(٢).
٢٢- توهم اتحاد الفعل مع اختلاف الفاعل:
توهم أن الفعل في الأدلة واحد ولكن الفاعل له مختلف، فينشأ عنه موهم التعارض.
مثاله: قوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ (٣).
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: رفع رسول الله - ﷺ - يده يوم بدر فقال: (يا ربّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا)، فقال له جبريل: خذ قبضة من التّراب، فأخذ قبضة من التّراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين(٤).
فالحديث يثبت الرمي للرسول - ﷺ -، بينما الآية تنفيه عن الرسول - ﷺ - وتثبته لله تعالى مع أن الفعل في الآية والحديث واحد وهو الرمي يوم بدر، فعند ذلك نشأ موهم التعارض بين الآية والحديث(٥).
٢٣- عدم التفريق بين الاسم والوصف:
فقد يأتي أمر من الأمور في دليل بالجواز ثم يأتي في دليل آخر بالتحريم ويكون ذلك التعارض سببه راجع إلى عدم التفريق بين مجيء هذا الأمر اسماً أو وصفاً فينشأ بذلك موهم التعارض بين الآية والحديث.
مثاله: قوله تعالى: ﴿ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ (٦).

(١) أهل الكتاب: هم الخارجون عن الدين الإسلامي ممن لهم كتاب كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري، ويطلق كذلك على من لهم شبهة كتاب كالمجوس، انظر الملل والنحل للشهرستاني (١/٢٤٧)، والعقائد والأديان لعبد القادر صالح (٦٩).
(٢) انظر ص (٢٤٨).
(٣) سورة الأنفال: الآية (١٧).
(٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٩/٢٥٦)، وابن أبي حاتم في تفسيره (٥/١٦٧٣).
(٥) انظر ص (٢٠٣).
(٦) سورة يوسف: آية (٤١).

فإرادة علي رضي الله عنه قتل هذا الرجل، وطلب أم هانئ النصرة من رسول الله - ﷺ - دليل على أن مكة قد فتحت عنوة، وإلاَّ لما احتاجت أم هانئ إلى طلب الأمان لابن هبيرة.
٣ - حديث أبي هريرة رضي الله عنه في فتح مكة عند مسلم قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار هل ترون أوباش(١)قريش؟) قالوا: نعم، قال: (انظروا، إذا لقيتموهم غداً أن تحصدوهم حصداً)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه(٢).
وجه دلالة الحديث:
وهذا الدليل صريح في وقوع القتال.
٤ - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لَمّا كان يوم فتح مكة أمَّنَ رسول الله - ﷺ - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: (اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، و مقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح)(٣).
وجه دلالة الحديث:
أنه لو كان فتح مكة صلحاً لَمَا أمر عليه الصلاة والسلام بقتل هؤلاء ولكان هذا مستثنى من عقد الصلح(٤).
القول الثاني:
(١) الأوبَاش: هم الأخلاط من الناس السفلة، انظر غريب الحديث لأبي عبيد (٣/١٨٩)، ومشارق الأنوار(٢/٣٤٩).
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، رقم (١٧٨٠).
(٣) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، رقم (٢٦٨٣) باختصار، والنسائي في سننه، كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، رقم (٤٠٦٧) بطوله، والبيهقي في السنن الكبرى
(٧/٤٠)، والحاكم في المستدرك (٢/٦٢) وصححه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/١٦٨-١٦٩): رواه أبو داود باختصار.
(٤) انظر فتح الباري (٨/١٦-١٧)، أضواء البيان (٢/٣٣٣-٣٣٦).

يجاب على هذا الحديث بأنه من القسم المستثنى وهو الإضافة إلى ما لا يعقل.
قال الطحاوي مجيباً على هذا الحديث: إن البهائم غير متعبدة كما بنو آدم متعبدون، فكأن البهائم بذلك بمعنى الأمتعة التي يجوز إضافتها إلى مالكيها وأنهم أرباب لها(١).
ويمكن مناقشة الأقوال في مسلك الجمع بما يلي:
القول الأول:
القائلون بالجواز مع الكراهة استدلوا بالآيات على لسان يوسف عليه السلام، وقد سبق الجواب على أنها خاصة بشريعة يوسف عليه السلام.
وأما حديث (أن تلد الأمة ربها) (٢) فهو في سياق الوصف وليس في سياق الدعاء والتسمية.
القول الثاني:
في التفريق بين المضاف وغير المضاف، فهذا القول يشكل عليه حديث النهي جاء لفظ (الرب) بالإضافة (لا يقل أحدكم أطعم ربك)(٣).
وبذلك يتبين رجحان مسلك الترجيح على مسلك الجمع، ويحمل النهي على التحريم ويجاب عن الآية بأن ذلك هو خاص بشرع يوسف عليه السلام ويندفع موهم التعارض بين الآيات والحديث، والله - تعالى - أعلم.
حكم طلب الإمارة
الآية:
قوله تعالى: ﴿ قَالَ سة_ù=yèô_$# عَلَى بûةî!#u"yz الْأَرْضِ 'دoTخ) îلٹدےxm زOٹد=tو ﴾ (٤).
الحديث:
حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - ﷺ - :(يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائْتِ الذي هو خير وكفّر عن يمينك) (٥).
(١) شرح مشكل الآثار (٤/٢٣٤).
(٢) سبق تخريجه ص(٣٥١).
(٣) سبق تخريجه ص(٣٨).
(٤) سورة يوسف: آية (٥٥).
(٥) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها، رقم (٧١٤٧)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، رقم (١٦٥٢).

١٠٠- تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، عبد الرحمن السيوطي، دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان.
١٠١- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، محمد القرطبي، تخريج: محمود البسطويسي، دار البخاري، المدينة المنورة - بريدة، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
١٠٢- التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن جزي الكلبي، تحقيق: محمد عبد المنعم اليونسي، إبراهيم عطوة عوض، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
١٠٣- التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة، محمد الآجري، تحقيق: محمد الجنباز، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الثانية، ١٤٠٦ه‍.
١٠٤- تعارض الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والترجيح بينها، محمد وفا، المتنبي، القاهرة، ١٤١٢ه‍.
١٠٥- تعارض الأدلة الشرعية والترجيح عند الأصوليين، عبد الحميد أبو المكارم، المكتبة المصرية، الإسكندرية، ٢٠٠٣م.
١٠٦- التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، عبد اللطيف البزرنجي، مكتبة عباس أحمد الباز، مكة، ١٤١٧ه‍.
١٠٧- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٦ه‍.
١٠٨- تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل لا يوجد فيها إلا ما هو خطأ، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: عبد العزيز الخليفة، نشر مكتبة الرشد وشركة الرياض، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
١٠٩- تفسير الجلالين، محمد المحلى، عبد الرحمن السيوطي، عناية: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، ١٤١٩ه‍.
١١٠- تفسير السمرقندي، نصر الله السمرقندي، تحقيق: محمود مطرجي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
١١١- تفسير القرآن الحكيم، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
١١٢- تفسير القرآن العزيز، عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.


الصفحة التالية
Icon