وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي)(١).
فالآية فيها جواز تسمية السيد بالرب والحديث فيه النهي عن ذلك، ولكن عند معرفة أن النهي في الحديث خاص بالتسمية بإضافة أو بدون، وما جاء في الآية كان مجرد وصف للسيد بالرب، علم أن سبب نشوء موهم التعارض بين الآية والحديث هو بسبب التفريق بين الاسم والوصف(٢).
٢٤- الجهل بمعاني الأفعال والحروف:
قد يكون للحرف والفعل أكثر من معنى فعندما يجهل الباحث معانيهما ثم يحملهما على غير معناها المراد ينشأ موهم التعارض.
مثال الفعل: قوله تعالى: ﴿ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ﴾ (٣).
وقوله - ﷺ - :(ما كفر بالله نبي قط)(٤).

(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي، رقم (٢٤١٤)، ومسلم في صحيحه، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، رقم (٢٢٤٩).
(٢) انظر ص (٣٤٩).
(٣) سورة الأعراف: آية (٨٨ - ٨٩).
(٤) أورده ابن قتيبة في مختلف الحديث (١٠٤)، وابن حجر في التلخيص (٤/٨٩) وقال: فرواه، ثم لم يكمل بعد ذلك بشيء، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (٢/٣٣٤): معناه صحيح إجماعاً، وقال الحوت في حسن الأثر
(٤٧٢): معناه صحيح لكن هذا اللفظ لم يرد.

إن مكة لم تفتح عنوة بل فتحت صلحاً وبذلك يكون فيئاً(١) وليس غنيمة، وهو راجع للإمام إن شاء قسمه وإن شاء ردَّه على أهله، وهذا ما فعله - ﷺ - مع أهل مكة، وبهذا يزول موهم التعارض بين الآية والحديث.
قال بهذا الشافعي(٢) وهو رواية عن أحمد(٣).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
١ - قوله عليه الصلاة والسلام: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن)(٤).
قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة (٥).
قال ابن حجر : ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره - ﷺ - بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه صلّى الله عليه وسلّم لهم بأن يكون التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة، لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل(٦).
٢ - عن وهب بن منبه قال: سألت جابراً: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا(٧).
(١) الفَيْءُ: هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، انظر الصحاح (١/٤٩)، لسان العرب (١٠/٣٦١).
(٢) انظر الأم (٧/٣٦١، ٣٦٢)، وشرح النووي لصحيح مسلم (١٢/٤٦٧).
(٣) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى (١٨٩)، وزاد المعاد (٣٧٧-٣٨٠).
(٤) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، رقم (١٧٨٠) من حديث أبي هريرة.
(٥) انظر فتح الباري (٨/١٧).
(٦) المصدر السابق (٨/١٧).
(٧) سبق تخريجه ص (٢٢٢).

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي - ﷺ - أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: (إنا لا نُولّي هذا من سأله ولا من حرص عليه)(١).
وجه موهم التعارض بين الآية والأحاديث:
نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث عن طلب الإمارة، وبيّن أن من سأل الإمارة لا يكون له من الله إعانة، ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل، فينبغي أن لا يطلبها الإنسان ولا يحرص على ذلك.
وفي الآية جاء الحديث عن يوسف عليه السلام وهو يطلب من الملك أن يولّيه على خزائن الأرض، فكيف يمكن دفع موهم التعارض بين ما حدث من يوسف عليه السلام وما نهى عنه النبي - ﷺ - ؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
سلك العلماء - رحمهم الله تعالى - لدفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث مسلك الجمع، وتعددت أقوالهم إلى ثلاثة:
القول الأول:
إن يوسف عليه السلام طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، أما إن كان هناك غيره فيبقى الحكم كما جاء به ظاهر الأحاديث، وحينئذ يندفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث.
(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، رقم (٧١٤٩)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، رقم (١٧٣٣).

١١٣- تفسير القرآن العزيز، لابن أبي زمنين، تحقيق: حسين بن عكاشة، محمد الكنز، دار الفاروق الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤٢٣ه‍.
١١٤- تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير الدمشقي، تحقيق: سامي السلامة، دار طيبة، الطبعة الأولى، ١٤٢٢ه‍.
١١٥- تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن بن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز، مكة، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
١١٦- تفسير القرآن، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، تحقيق: عبد الله الوهيبي، الناشر: المحقق، الرياض.
١١٧- تفسير القرآن، منصور السمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، غنيم بن عباس، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
١١٨- تفسير المراغي، أحمد المراغي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
١١٩- التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
١٢٠- تقريب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: صغير أحمد الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٦ه‍.
١٢١- التقريب والإرشاد الصغير، محمد الباقلاني، تحقيق: عبد الحميد بن علي أبو زنيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤١٨ه‍.
١٢٢- التقرير والتحرير، ابن أمير الحاج، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٣ه‍.
١٢٣- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت.
١٢٤- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، يوسف ابن عبد البر النمري، تحقيق: أسامة بن إبراهيم، الفاروق الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤٢٠ه‍.
١٢٥- تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل، محمد الشوكاني، تحقيق: مشهور آل سلمان، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه‍.
١٢٦- تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام، محمد بن صالح العثيمين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السعودية، الطبعة الثالثة، ١٤٠٠ه‍.


الصفحة التالية
Icon