وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله - ﷺ -، فسأله أن يعطيه قميصه ويكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله - ﷺ - ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله - ﷺ - :(إنما خيرني الله فقال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ﴾ وسأزيده على السبعين)، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ هk÷]دiB مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى ے¾دnخژِ٩s% ﴾ (١) (٢).
من ظاهر الآية أن مفهوم العدد سبعين ليس بحجة وإنما ذكر من باب المبالغة والتيئيس من قبول الاستغفار، بينما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسأزيده على السبعين)، أن مفهوم العدد سبعين حجة، وعند ذلك نشأ موهم التعارض بين الآية والحديث(٣).
الفصل الثاني :
اهتمام العلماء بدفع موهم التّعارض بين القرآن والسُّنَّة ومسالكهم تجاهه في ضوء القسم التّطبيقي
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : اهتمام العلماء بدفع موهم التّعارض بين القرآن والسُّنَّة.
المبحث الثاني : مسالك العلماء تجاه موهم التّعارض بين القرآن والسُّنَّة.
المبحث الأول

(١) سورة التوبة: الآية (٨٤).
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ uچدےَّtƒ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ رقم (٤٦٧٠)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رقم (٢٤٠٠)، وكتاب صفات المؤمنين، رقم (٢٧٧٤).
(٣) انظر ص (٢٨٥).

أما في الحديث فقد خصّ النبي - ﷺ - القوة بالرمي دون غيرها من الأمور التي يتقوى بها المقاتل، فظاهر الآية والحديث التعارض من جهة العموم والخصوص، فكيف يمكن دفع موهم التعارض بينهما ؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
تعددت أقوال العلماء - رحمهم الله تعالى - تجاه هذه المسألة من حيث ترجيح عموم الآية أو تخصيص الحديث إلى مسلكين:
أولاً: مسلك الجمع:
فهؤلاء حملوا المراد بالقوة في الآية على العموم أي على كل ما يتقوى به المؤمن في الحرب على العدو، وأجابوا عن تخصيص الحديث للقوة بالرمي بأنه من أقوى وأفضل وأنجع أنواع القوة اللازمة في القتال، أو أن ذلك على سبيل التمثيل في بيان بعض أنواع القوى لا الحصر.
وإلى هذا ذهب ابن جرير(١)، والرازي(٢)، والبيضاوي(٣)، والخازن(٤)، والطيبي(٥)،
وأبو حيان(٦)، والخفاجي(٧)، وملا علي قارئ(٨)، والألوسي(٩)، ومحمد صديق خان(١٠)، ومحمد رشيد رضا(١١)، وابن عاشور(١٢)، وحمل جمهور المفسرين القوة على العموم ولم يخصصوها بأي نوع من أنواع القوى(١٣).
(١) انظر تفسير الطبري (١٠/٤٢-٤٣).
(٢) انظر مفاتيح الغيب (١٥/١٤٨).
(٣) انظر تفسير البيضاوي (٣/٦٥).
(٤) انظر لباب التأويل (٢/٣٢٢).
(٥) انظر شرح الطيبي للمشكاة (٨/٢٦٦٥).
(٦) انظر البحر المحيط (٤/٥١١).
(٧) انظر حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (٤/٤٩٧).
(٨) انظر مرقاة المفاتيح (٧/٤٢٤).
(٩) انظر روح المعاني (١٠/٢٥).
(١٠) انظر فتح البيان (٥/٢٠١-٢٠٢).
(١١) انظر تفسير المنار (١٠/٥٣-٥٤).
(١٢) انظر تفسير التحرير والتنوير (١٠/٥٥).
(١٣) انظر تفسير الطبري (١٠/٤٢)، والوسيط (٢/٤٦٨)، ومعالم التنزيل (٣/٣٧١)، والكشاف (٢/١٣٢)، ومفاتيح االغيب (١٥/١٤٨)، والبحر المحيط (٤/٥١١) وغيرهم.

وقال ابن عاشور: وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة علم أنه لا يعلم له غيره لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة، وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - ﷺ - :(يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) (١) لأن
عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله ولا راجحاً على جميعهم(٢).
وبذلك يندفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث ويأتلف الدليلان ويتفقان، والله تعالى أعلم.
هل ييأس المؤمن من روح الله ؟
الآية:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (٣).
الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر الله علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذب به أحداً. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدي ما أخذت فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك)(٤).
وجه موهم التعارض بين الآية والحديث:
(١) سبق تخريجه ص(٣٥٣).
(٢) التحرير والتنوير (١٣/٩).
(٣) سورة يوسف: آية (٨٧).
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب بدون ترجمة، رقم (٣٤٨١)، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، رقم (٢٧٥٦).

١٥٤- الحجة على أهل المدينة، محمد الشيباني، تعليق: مهدي الكيلاني، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٣ه‍.
١٥٥- حسن الأثر، محمد الحوت، دار المعرفة، بيروت.
١٥٦- حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه، محمد الشيباني، مكتبة السداوي، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤٠٧ه‍.
١٥٧- اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
١٥٨- اختلاف المفسرين، أسبابه وآثاره، سعود الفنيسان، مركز الدراسات والإعلام، دار إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
١٥٩- اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق: جاسم الفهيد، مكتبة دار الأقصى، الكويت، الطبعة الأولى، ١٤٠٦ه‍.
١٦٠- الخرشي على مختصر سيدي خليل، محمد الخرشي، دار صادر، بيروت.
١٦١- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحبي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
١٦٢- خلاصة البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، عمر بن الملقن، تحقيق: حمدي السلفي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه‍.
١٦٣- الدر الثمين في ترجمة فقيه الأمة العلامة ابن عثيمين، عصام المري، دار البصرة، الإسكندرية.
١٦٤- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، أحمد بن يوسف الحلبي، تحقيق: أحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، ١٤٠٦ه‍.
١٦٥- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
١٦٦- درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، الطبعة الثانية، ١٣٩٩ه‍.
١٦٧- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: سالم الكرنكوي.
١٦٨- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي، مطابع الرياض، الرياض، الطبعة الأولى، ١٣٧٥ه‍.


الصفحة التالية
Icon