اهتمام العلماء بدفع موهم التعارض بين القرآن والسُّنَّة
لقد اهتم العلماء - رحمهم الله تعالى - بدفع موهم التعارض بين القرآن والسنة بل بين جميع الأدلة، حتى لا تكاد تجد موهم تعارض بين دليلين إلا وللعلماء -رحمهم الله تعالى- جواب عليه، يكشفون غامضه، ويدفعون موهمه، ويزيلون مشكله.
وعند النظر في كتب العلماء نجد أنها لا تخلو - في عمومها - من تناول لموضوع موهم التعارض بين القرآن و السنة، إما تصريحاً للموهم بين القران والسنة بأن ينص العالم أن هذا الحديث مثلاً يعارض هذه الآية، أو ضمناً كدراسة مسألة من المسائل ويكون من ضمنها موهم تعارض بين دليل من القران ودليل من السنة.
أما عن مصنفات أفردت هذا الموضوع بمؤلف مستقل، فلم أطلع - حسب علمي - على شيء من ذلك.
وفي هذا المبحث أذكر ما اطلعت عليه من الكتب الذي اهتمت بهذا الموضوع، حسب كل علم من العلوم، وفيما يلي بيانها:
أولاً: كتب علوم القرآن:
١- (البرهان في علوم القرآن) لبدر الدين محمد الزركشي، ت٧٩٤هـ.
٢- (الإتقان في علوم القرآن)، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت٩١١هـ.
ثانياً: كتب مشكل القرآن:
موهم التعارض بين القرآن والسنة نوع من أنواع مشكل القرآن، ولكن لا يوجد -حسب علمي- ممن صنف في مشكل القرآن من أفرد هذا الموضوع في مؤلف مستقل، ولكن ذكره العلماء في كتب مشكل القرآن ضمناً مع أنواع مشكل القرآن، ومن هذه الكتب ما يلي:
١- (تأويل مشكل القرآن)، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت٢٧٦هـ.
٢- (تنزيه القرآن عن المطاعن)، (متشابه القرآن)، للقاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي، ت٤١٥هـ.
٣- (القرطين)، لمحمد بن أحمد الكناني، ت٤٥٤هـ.
٤- (وضح البرهان في مشكلات القرآن)، لمحمود بن أبي الحسن الغزنوني، المعروف ببيان الحق النيسابوري، ت٥٥٣هـ.
٥- (أنموذج الجليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل)، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ت٦٦٦هـ.
قال الرازي في دفع ذلك الإيهام: قال أصحاب المعاني الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة، وقوله عليه الصلاة والسلام (القوة هي الرمي) لا ينفي كون غير الرمي معتبرًا، كما جاء أن قوله عليه الصلاة والسلام (الحج عرفة)(١)، (والندم توبة)(٢) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ها هنا(٣).
ثانيًا: مسلك الترجيح:
وهؤلاء رجحوا تخصيص الحديث للقوة بالرمي، وقالوا: هذا القول متعين القول به لأنه تفسير من النبي - ﷺ - وتخصيصاً له، فهو مقدّم على غيره من الأقوال.
وهذا المسلك هو ظاهر كلام النووي(٤)، والشوكاني(٥).

(١) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الحج، باب ما جاء في من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج رقم (٨٨٩) وصححه، والنسائي في سننه، كتاب الحج، باب فرض الوقوف بعرفة رقم (٣٠١٦)، وباب فيمن يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، رقم (٣٠٤٤)، وابن ماجه في سننه كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، رقم (٣٠١٥)، وأحمد في مسنده (٤/٣٠٩، ٣٣٥)، والنسائي في الكبرى (٢/٤٢٤، ٤٣٢، ٤٦٢)، وابن خزيمة في صحيحه (٤/٢٥٧)، والحاكم في المستدرك (١/٦٣٥)، (٢/٣٠٥)، والبيهقي في الكبرى
(٥/١٧٣) كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر الديلمي.
(٢) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم (٤٢٥٢)، وأحمد في مسنده (١/٣٧٦، ٤٢٣، ٤٣٣)، والبيهقي في السنن الكبرى (١٠/١٥٤)، وابن حبان في صحيحه (٢/٣٧٧) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (٢/٣٧٩) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) مفاتيح الغيب (١٥/١٤٨).
(٤) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (١٣/٥٧).
(٥) انظر فتح القدير (٢/٣٢٠).

يفهم من الآية أن المؤمن بالله لا ييأس من رحمة الله ورجائه، بل دائماً يرجو رحمة الله تعالى، وفي المقابل نجد في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه بالذنوب، يئس من رحمة الله تعالى وأمر أبناءه بأن يحرقوه ثم يذروا رماده في يوم عاصف، لئلا يعذبه الله تعالى يوم القيامة، فكيف يمكن الجمع بين ما يفهم من الآية وبين ما جاء في الحديث ؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
لدفع موهم التعارض بين الآية والحديث سلك العلماء مسلك الجمع، وتعددت أقوالهم في ذلك إلى ستة أقوال:
الأول: إنه قال هذا الكلام وهو غير ضابط لكلامه، ولا قاصد لحقيقة معناه ولا معتقد له، بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش، والخوف، وشدة الجزع بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ عليها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: (أنت عبدي وأنا ربك)(١)، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو.
رجح هذا القول ابن أبي جمرة الأزدي(٢) (٣)، ونقله ابن حجر عن شيخه ابن الملقن(٤)(٥)، ورجحه(٦).
الثاني: هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى ولكنه لم يجحدها، فقال هذا الكلام جهلاً(٧).
(١) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، رقم (٢٧٤٧)، من حديث أنس رضي الله عنه: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده..) الحديث.
(٢) محمد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن عبد الملك بن وليد بن أبي جمرة الأموي مولاهم، الأندلسي المرسي، توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة بعد الهجرة، انظر سير أعلام النبلاء (٢١/٣٩٨)، وشذرات الذهب
(٦/٥٥٦).
(٣) انظر بهجة النفوس (٤/٤٧).
(٤) علي بن عمر بن علي الأنصاري الملقن الشافعي، توفي سبع وثمانمائة بعد الهجرة، انظر إنباء الغمر (٥/٢٥٢)، وشذرات الذهب (٩/١٠٤).
(٥) انظر فتح الباري (١١/٣٨١).
(٦) انظر فتح الباري (٦/٦٤٠).
(٧) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (١٧/٢٢٧)، وفتح الباري (٦/٦٣٩).

١٦٩- دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع وتحقيق: محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق - بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٤ه‍.
١٧٠- دلائل النبوة ومعرفة أحوال أصحاب الشريعة، أحمد البيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
١٧١- دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد بن علان، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة.
١٧٢- الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: أبو إسحاق الجويني، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، ١٤١٦ه‍.
١٧٣- ديوان النابغة الذبياني، زياد الذبياني، تحقيق وشرح: كرم البتاني، دار صادر، بيروت.
١٧٤- ديوان كعب بن زهير، تعليق: محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه‍.
١٧٥- ديوان أبي تمام، حبيب بن أوس الطائي، شرح وتعليق: شاهين عطية، مكتبة الطلاب وشركة الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، ١٣٨٧ه‍.
١٧٦- الذخيرة، أحمد القرافي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٤م.
١٧٧- الذيل على النهاية في غريب الحديث، عبد السلام علوش، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
١٧٨- الرؤية، علي الدارقطني، تحقيق: إبراهيم العلي وآخرون، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
١٧٩- رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، محمد الدمشقي العثماني، تحقيق: علي الشربجي وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه‍.
١٨٠- الرحمة في القرآن الكريم، موسى العسيري، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٢ه‍.
١٨١- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، محمد أمين بن عمر بن عابدين، دار إحياء التراث العربي.
١٨٢- الرد على الجهمية والزنادقة، أحمد بن حنبل، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، دار اللواء، الرياض، الطبعة الثانية، ١٤٠٢ه‍.


الصفحة التالية
Icon