سابعاً: كتب الفتاوى والرسائل والآداب:
أخيراً لا ننسى في ذلك كتب الرسائل والفتاوى والآداب للعلماء الأجلاء كابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، والشوكاني وغيرهم من العلماء، لأن هذه الكتب لا تخلو في معظمها من تناول لبعض مسائل موهم التعارض بين القرآن والسنة.
ولم أذكر في القسم السادس والسابع المؤلفات التي اهتمت بهذا الموضوع لصعوبة حصرها وتحديدها، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض بين القرآن والسنة
تعددت مسالك العلماء تجاه موهم التعارض فمنهم من سلك مسلك الجمع ومنهم من سلك مسلك النسخ ومنهم من سلك مسلك الترجيح أو مسلك التوقف وعدم الخوض في المسألة لعدم ظهور وجه من وجوه الجمع أو الترجيح لديه.
وتبعاً لتعدد هذه المسالك في دفع موهم التعارض اختلف العلماء في ترتيبها، وأيها يقدم على الآخر(١)، فهل يبدأ بالجمع بين الدليلين أولاً ؟ أو بالنسخ ؟ أو غير ذلك ؟

(١) تعددت مناهج العلماء ومسالكهم تجاه موهم التعارض فمنهم من قدم النسخ ثم الترجيح ثم الجمع ثم التساقط، ومنهم من قدم الجمع ثم النسخ ثم الترجيح ثم التوقف، إلى غير ذلك من المناهج التي سلكها العلماء في دفع موهم التعارض بين الأدلة، ينظر في ذلك التعارض والترجيح للبزرنجي (١/١٦٦ - ١٨٨)، ومنهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث لعبد المجيد السوسوة (١١٣ - ١٢٢).

وإلى هذا القول ذهب الطيبي وقال: لا منافاة بين الحديث والآية، وذلك أن التخيير في الحديث وارد على سبيل الاختبار والامتحان، ولله أن يمتحن عباده بما شاء. وقال: ولعل الله تعالى امتحن النبي - ﷺ - وأصحابه بين أمرين: القتل أو الفداء، وأنزل جبريل عليه السلام بذلك هل هم يختارون ما فيه رضا الله تعالى من قتله أعداءه، أم يؤثرون الأعراض العاجلة من قبوله الفدية؟ فلما اختاروا الثاني عوتبوا بقوله ﴿ مَا كَانَ @cسة (١) (٢).
واستدل على أن الخطاب في العتاب لجميع من اختار الفداء على القتل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم(٣)، قال النبي - ﷺ - بعد قصة تخيير الصحابة في الأسرى واختيارهم بعد ذلك الفداء على القتل: (أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة).
ففي هذا بيان لشمول العتاب لمن أخذ الفداء سواءً لتقوية المسلمين على الكفار أو لأي غرض آخر.
أيضًا واستدل الطيبي بالقياس على جواز الامتحان فقال: امتحن الله تعالى أزواج النبي - ﷺ - بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ y٧إ_¨urّ-X{ إِنْ كُنْتُنَّ ڑcôٹحچè؟ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا tû÷،s!$yètFsù أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ (٤)، وامتحن الناس بتعليم السحر في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ٤س®Lxm يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ ×psY÷Gدù ﴾ (٥) امتحن الناس بالملكين وجعل المحنة في الكفر والإيمان، بأن يقبل العامل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه (٦).
القول الثالث:
(١) سورة الأنفال: آية (٦٧).
(٢) شرح الطيبي (٩/٢٧٤٨).
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، رقم (١٧٦٣)، عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم.
(٤) سورة الأحزاب: آية (٢٨).
(٥) سورة البقرة: آية (١٠٢).
(٦) شرح الطيببي (٩/٢٧٤٨).

سلك العلماء لدفع موهم التعارض مسلك الجمع بين الآية والأحاديث، وتعددت أقوالهم في ذلك على ضوء عود الضمير في قوله: ﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ (١)، هل هو عائدٌ على الله تعالى، أم عائدٌ على يوسف عليه السلام ؟
القول الأول: قالوا إن الضمير في (له) عائدٌ على الله تعالى أي سجدوا لله تعالى سجود شكر، وعلى هذا لا يكون هناك إشكال بين الآية والنهي في الأحاديث.
قال الحسن: الضمير في (له) لله عز وجل(٢).
قال ابن الجوزي عن هذا القول: رواه عطاء، والضحاك عن ابن عباس(٣).
ورجح هذا القول الرازي وقال: والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ مُشعرٌ بأنهم صعدوا ذلك السرير، ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف، لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.
وقال أيضاً: وعندي أن هذا التأويل متعين، لأنه يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة، والشيخوخة، والعلم، والدين، وكمال النبوة(٤).
القول الثاني: إن الضمير في قوله ﴿ وَخَرُّوا لَهُ ﴾ عائدٌ على يوسف عليه السلام كما هو ظاهر السياق.
وحينئذ يتعين الإشكال وينشأ إيهام التعارض مع أحاديث النهي عن السجود لغير الله.
لكن قبل ذكر أجوبة العلماء عن موهم التعارض، لابد من بيان أن هذا السجود الذي حصل من يعقوب وبنيه ليوسف عليهم السلام على جهة التحية وليس على معنى العبادة، وهذا هو ما أجمع عليه المفسرون.
(١) سورة يوسف: آية (١٠٠).
(٢) انظر المحرر الوجيز (٨/٨٠)، والجامع لأحكام القرآن (٩/٢٧٠)، والبحر المحيط (٥/٣٤٨).
(٣) زاد المسير (٤/٢٩٠)، وانظر مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩).
(٤) مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩).

٢٢٨- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله الغنيمان، مكتبة لينة، مصر، الطبعة الثانية، ١٤١١ه‍.
٢٢٩- شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٥ه‍.
٢٣٠- شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي، تحقيق: محمد النجار وآخرون، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه‍.
٢٣١- الشريعة، محمد الآجري، تحقيق: عبد الله الدميجي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
٢٣٢- شعب الإيمان، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد سعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه‍.
٢٣٣- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، تحقيق: علي البجاوي، دار الكتاب العربي، بيروت.
٢٣٤- شفاء العليل، محمد ابن قيم الجوزية، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، دار التراث، القاهرة.
٢٣٥- شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور، بلقاسم الغالي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
٢٣٦- الشيخ عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة ورجالها، منصور السماري، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
٢٣٧- الصحاح، إسماعيل الجوهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٩ه‍.
٢٣٨- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، علي بن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، ١٤١٨ه‍.
٢٣٩- صحيح ابن خزيمة، محمد بن خزيمة السلمي، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٤٠٠ه‍.
٢٤٠- صحيح البخاري مع كشف المشكل، عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: مصطفى الذهبي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤٢٠ه‍.
٢٤١- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
٢٤٢- الصحيح المسند من أسباب النزول، مقبل الوادعي، دار ابن حزم، بيروت، مكتبة دار القدس، اليمن، الطبعة الأولى، ١٤١٣ه‍.


الصفحة التالية
Icon