يقول القرافي(١): إذا تعارض دليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه أولى من العمل بأحدهما(٢).
ويقول البيضاوي(٣): وإذا تعارض نصان فالعمل بهما من وجه أولى(٤).
وقال السبكي (٥): وأن العمل بالمتعارضين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما(٦).
المثال على مسلك الجمع:
قوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ (٧).
عن ابن عباس قال: رفع رسول الله - ﷺ - يده يوم بدر فقال: (يا ربّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا)، فقال له جبريل: خذ قبضة من التّراب، فأخذ قبضة من التّراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين(٨).
وجه موهم التّعارض بين الآية والحديث:

(١) أحمد بن أدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي القرافي، أبو العباس المالكي، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة بعد الهحرة، انظر شجرة النور الزكية (١٨٨)، والأعلام (١/٩٤).
(٢) شرح تنقيح الفصول (٣٢٩).
(٣) عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي، قاضي القضاة، ناصر الدين أبو الخير، صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وثمانين وستمائة بعد الهجرة، انظر طبقات الشافعية الكبرى (٨/١٥٧)، طبقات الشافعية للأسنوي
(١/٢٨٣)، شذرات الذهب (٧/٦٨٥).
(٤) انظر الإبهاج شرح المنهاج للسبكي (٣/٢٢٤).
(٥) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمَاّم السبكي، أبو نصر الشافعي، توفي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة بعد الهجرة، انظر الدرر الكامنة (٢/٤٢٥)، وشذرات الذهب (٨/٣٧٨).
(٦) منع الموانع عن جمع الجوامع (٤٢٧).
(٧) سورة الأنفال: الآية (١٧).
(٨) سبق تخريجه ص (٣٧).

قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (١).
الحديث:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله - ﷺ - لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى) فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - ﷺ - :(ما ترى يا ابن الخطاب) قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبًا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم، فَهَوْي رسول الله - ﷺ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - ﷺ - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت ببكائكما، فقال رسول الله - ﷺ - :(أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة) - شجرة قريبة من نبي الله - ﷺ - وأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿ مَا كَانَ @cسة (٢) إلى قوله ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ Wx"n=xm طَيِّبًا ﴾ (٣) فأحل الله لهم الغنيمة(٤).
وجه موهم التعارض بين الآية والحديث:
في ظاهر الآية إثبات أن المسلمين أخذوا من الغنيمة، وفي القصة التي في الحديث أنهم لم يأخذوا شيئاً، فكيف يمكن دفع موهم التعارض بين ما جاء في الآية وظاهر الحديث؟
(١) سورة الأنفال: آية (٦٨).
(٢) سورة الأنفال: آية (٦٧).
(٣) سورة الأنفال: آية (٦٩).
(٤) سبق تخريجه ص (٢٣٣).

٢- سياق الآية يتحدث عن يوسف عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ (١) فكيف يصرف السجود بعد ذلك عنه، واللفظ صريح في ذلك ﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾.
٣- موافقة هذا القول للرؤيا التي رأى فيها يوسف عليه السلام الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له.
٤- أنه لما أمكن الجمع بين ظاهر الآية وما جاء في الحديث، على أن هذا في شرع من قبلنا، لماذا تُحمل الآية على غير ظاهرها، ويتكلف في تأويلها ؟
واعترض على هذا القول بما يلي:
أ- إن اللام في قوله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ (٢) بمعنى (إلي) كقولك صليت للكعبة، أو بمعنى التعليل، أي: لأجلي ساجدين، فهم سجدوا لله سجود شكر من أجلي(٣).
وأجيب على هذا بأن حمل الآية على ظاهرها مع إمكان الجمع ووجود المرجحات أولى من صرفها عن ظاهرها.
ب- إنه يستبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة، بل إن السجود من يوسف لأبيه أليق به من يعقوب لابنه(٤).
وأجيب عليه :
١- بأن هذا تحقيق لرؤياه، ولحكمة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى(٥).
٢- إن يعقوب عليه السلام فعل هذا السجود ليتبعه أبناؤه فيه، لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه وظهور الأحقاد الكامنة(٦).
(١) سورة يوسف: آية (٩٩ - ١٠٠)
(٢) سورة يوسف: آية (٤).
(٣) انظر مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩).
(٤) انظر مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩ - ١٧٠).
(٥) انظر حاشية الشهاب (٥/٣٦٠)، وروح المعاني (١٣/٥٨).
(٦) انظر حاشية الشهاب (٥/٣٦٠)، وروح المعاني (١٣/٥٩).

٢٧٥- غرائب القرآن ورغائب الفرقان، الحسن القمي النيسابوري، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض، شركة ومطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولى، ١٣٨١ه‍.
٢٧٦- غريب الحديث، حمد الخطابي، تحقيق: عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى، مكة، ١٤٠٢ه‍.
٢٧٧- غريب الحديث، عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الباز، مكة، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
٢٧٨- الغريبين في القرآن والحديث، أحمد الهروي، تحقيق: أحمد المزيدي، مكتبة نزار الباز، مكة، الطبعة الأولى، ١٤١٩ه‍.
٢٧٩- الفائق في غريب الحديث، محمود الزمخشري، تحقيق: علي البجاوي وآخرون، عيسى الحلبي وشركاه، الطبعة الثانية.
٢٨٠- فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين، إعداد وترتيب: أشرف عبد المقصود، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الثانية، ١٤١٢ه‍.
٢٨١- الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، دار المعرفة، بيروت.
٢٨٢- الفتاوى الهندية في فتاوى مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ابن الهمّام وآخرون، المطبعة الأميرية ببولاق، ١٣١٠ه‍.
٢٨٣- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد ابن حجر العسقلاني، دار السلام، الطبعة الأولى، ١٤٢١ه‍.
٢٨٤- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، عبد الرحمن ابن رجب، تحقيق: طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
٢٨٥- فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان، تحقيق: عبد الله الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، ١٤١٢ه‍.
٢٨٦- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد البنا، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
٢٨٧- الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، جمع وترتيب وتحقيق: محمد صبحي بن حسن حلاق، مكتبة الجيل الجديد، اليمن، الطبعة الأولى، ١٤٢٣ه‍.
٢٨٨- فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، زكريا الأنصاري، تحقيق: محمد الصابوني، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.


الصفحة التالية
Icon