في هذه الآية الكريمة ينفي الله عزّ وجلّ ما حصل من نبيّه - ﷺ - في رميه المشركين يوم بدر، ويثبت ذلك الرّمي له سبحانه، وهذا لا شكّ أنّ فيه إيهام تعارض لظاهر الآثار التي ثبتت عن الصحابة رضي الله عنهم في مباشرته عليه الصّلاة والسلام لهذا الفعل، فكيف يمكن دفع إيهام التعارض هنا ؟
قال ابن تيمية(١) في الجمع بين الآية والحديث : فإنّ النّبيّ - ﷺ - كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال: (شاهت الوجوه)(٢) فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النّبيّ - ﷺ - عاجزة عن إيصالها إليهم، والرّمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهى وهو الوصول، فأثبت الله لنبيّه المبدأ بقوله: ﴿ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ (٣) ونفى عنه المنتهى، وأثبته لنفسه بقوله:
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾، وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإنّ هذا تناقض (٤).
ثانياً: مسلك النسخ:
متى ما تعذر الجمع بين الأدلة، وتحقق النسخ بينها أخذ بمسلك النسخ، وما يبدو للناظر من تعارض بين القرآن والسنة إنما هو في الظاهر وليس تعارضاً حقيقياً، لأن كل واحد من الأدلة له زمن غير زمن الآخر، والدليل المتقدم انتهى العمل به بعد مجيء الدليل الناسخ له.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنه لا يمكن العمل بمسلك النسخ إلا إذا تحققت شروطه المعتبرة وهي ما يلي :

(١) أحمدبن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الحراني، الدمشقي، الحنبلي، أبو العباس تقي الدين ابن تيمية، توفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بعد الهجرة، انظر الدرر الكامنة (١/١٤٤)، النجوم الزاهرة (٩/١٩٦).
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (٣/٢٠٣) عن حكيم بن حزام، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/٨٤): رواه الطبراني وإسناده حسن.
(٣) سورة الأنفال: الآية (١٧).
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية (٢/٣٧٥).

مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
أجاب عن هذا الإشكال الإمام الطحاوي(١) - رحمه الله تعالى - بالجمع بين الآية والحديث فقال: إن هذا الحديث كما ذُكر، غير أنه قد خالف ابن عباس فيه أبو هريرة، فأخبر أن المسلمين قد كانوا أخذوا شيئًا من الغنائم قبل إنزال الله عز وجل هذه الآية، ونص الحديث: لَمّا كان يوم بدر تعجل الناس من المسلمين، فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله - ﷺ - :(لم تحِلّ الغنائم لقوم سود الرؤوس(٢)قبلكم، كان النبي - يعني من كان قبله - إذا غنم هو وأصحابه، جمعوا غنائمهم، فتنزل نار من السماء تأكلها)، فأنزل الله ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ Wx"n=xm طَيِّبًا ﴾ (٣) (٤).
وهكذا يتبين لنا من جواب الإمام الطحاوي - رحمه الله تعالى - أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما لم يشمل جميع القصة وما دلت عليه الآيات في سبب النزول بل كان الحديث عن جزء من الخبر في الآية، وما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه دلّ على باقي القصة وتبين أن لا تعارض ولا اختلاف بين الآية والحديث، والله تعالى أعلم.
من كان له عهد من المشركين أكثر من أربعة أشهر
هل ينتهي بعدها، أم عهده إلى مدته ؟
الآية:
(١) انظر شرح مشكل الآثار (٨/٣٥٩-٣٦٣)، ومعتصر المختصر (١/٢٣٣).
(٢) المرادبهم بنو آدم، انظر تحفة الأحوذي (٨/٣٧٧).
(٣) سورة الأنفال: آية (٦٨-٦٩).
(٤) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنفال، رقم (٣٠٨٥)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، غريب من حديث الأعمش، وأخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٥٢)، والنسائي في الكبرى
(٦/٣٥٢)، وابن حبان في صحيحه (١١/١٣٤)، والبيهقي في الكبرى (٦/٢٩٠).

ج- قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ (١) مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف، لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع(٢).
وأجيب عليه بأن الواو لا تدل على الترتيب، وأن الترتيب الذكري لا يجب كونه وفق الترتيب الوقوعي، فلعل تأخيره عنه ليتصل به ذكر كونه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به(٣).
أما عن الأجوبة الأخرى في ضوء القول الثاني فيمكن مناقشتها بما يلي:
١- القول إن السجود يراد به الانحناء بالرأس فقط وليس وضع الجبهة على الأرض، أو التواضع ليوسف عليه السلام.
فهذا يجاب عليه بمخالفته اللغة(٤)، وليس من معاني الخرور الانحناء بالرأس أو الركوع(٥).
قال الشوكاني: وقيل لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء، وكانت تحيتهم، وهو يخالف معنى: ﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلا بوضع الوجه على الأرض(٦).
واعترض الرازي على ذلك وقال: إن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ (٧) يعني لم يمروا(٨).
قال الألوسي مجيباً على هذا: وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر السقوط(٩).
٢- القول بأن السجود ليوسف عليه السلام، كقولك صليت للكعبة، فجعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله تعالى شكراً على نعمه.
وأجيب على هذا القول بمخالفته الظاهر من دلالة ألفاظ الآية وسياقها، وصرف معناها عن الظاهر مع إمكان الجمع ودفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث.
(١) سورة يوسف: آية (١٠٠).
(٢) انظر مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩).
(٣) انظر حاشية الشهاب (٥/٣٦١)، وروح المعاني (١٣/٥٨).
(٤) انظر البحر المحيط (٥/٣٤٨).
(٥) انظر لسان العرب (٤/٥٧)، وتاج العروس (١١/١٥٠).
(٦) فتح القدير (٣/٥٦).
(٧) سورة الفرقان: آية (٧٣).
(٨) مفاتيح الغيب (١٨/١٦٩).
(٩) روح المعاني (١٣/٥٨).

٢٨٩- الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير القاضي البيضاوي، عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: أحمد السلفي، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤٠٩ه‍.
٢٩٠- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد الشوكاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
٢٩١- فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي، محمد السخاوي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، الطبعة الثانية، ١٣٨٨ه‍.
٢٩٢- فتح الملهم شرح صحيح مسلم، شبير العثماني، تحقيق: شريف أحمد المقرئ، المكتبة الرشيدية، باكستان.
٢٩٣- الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، سليمان الجمل، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
٢٩٤- الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي، عناية: إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤١٧ه‍.
٢٩٥- الفروع، محمد بن مفلح المقدسي، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثالثة، ١٤٠٢ه‍.
٢٩٦- الفريد في إعراب القرآن المجيد، حسين الهمداني، تحقيق: محمد حسن النمر، دار الثقافة، الدوحة، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
٢٩٧- الفصل المبين على عقد الجواهر الثمين، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: عاصم البيطار، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٩ه‍.
٢٩٨- الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد بن حزم، تحقيق: محمد إبراهيم نصر وآخرون، شركة مكتبات عكاظ، جدة، الطبعة الأولى، ١٤٠٢ه‍.
٢٩٩- فضائل المدينة، المفضل بن محمد الجندي، تحقيق: محمد مطيع الحافظ وآخرون، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
٣٠٠- فهرس الخزانة التيمورية، محمد عبد الجواد الأصمعي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ١٣٦٧ه‍.
٣٠١- فوائد في مشكل القرآن، عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: سيد رضوان علي، دار الشروق، جدة، الطبعة الثانية، ١٤٠٢ه‍.
٣٠٢- فوات الوفيات والذيل عليها، محمد الكتبي، تحقيق: إحسان عباس، دار صارد، بيروت.


الصفحة التالية
Icon