وجه موهم التعارض بين الآية والأحاديث:
ظاهر الآية وسياقها في الحديث عن مسجد قباء لأنه هو الذي أسس في أول يوم قدم فيه النبي - ﷺ - إلى المدينة وبناه قبل مسجده، وكذلك وصْفُه تعالى لأهل قباء بأنهم رجال يحبون أن يتطهروا كما دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ (١) قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم الآية(٢).
إذا كان هذا... يظهر مُوهم التعارض بينها وبين حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي عَيَّن فيه الرسول - ﷺ - مسجده بالمسجد الذي أسس على التقوى وأخذ كفاً من حصباء وضرب به الأرض دلالة على أنه هو المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى وليس مسجد قباء.
عند ذلك كيف يكون الجمع بين ظاهر الآية وما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؟
قال ابن جرير(٣) في ترجيح ظاهر الحديث على سياق الآية: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو مسجد الرسول - ﷺ - لصحة الخبر بذلك عن رسول الله(٤).
رابعاً: مسلك التوقف:

(١) سورة التوبة: الآية (١٠٨).
(٢) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء، رقم (٤٤)، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة التوبة، رقم (٣١٠٠)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء، رقم (٣٥٧)، وصحح سنده ابن حجر في الفتح (٧/٣٠٧)، وضعفه في التلخيص الحبير (١/١١٢)، وانظر خلاصة البدر المنير (١/٥٠).
(٣) محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، أبو جعفر، المحدث، إمام المفسرين، صاحب التصانيف، توفي سنة عشر وثلاثمائة بعد الهجرة. انظر وفيات الأعيان (٤/١٩١)، وسير أعلام النبلاء (١٤/٢٦٧)، والعبر (٢/١٤٦).
(٤) تفسير الطبري (١١/٣٨).

أجاب عن هذا الإشكال القرطبي(١) والقاسمي(٢) - رحمهما الله تعالى - وسلكوا في ذلك مسلك الجمع بين الآية وما اعتبر سبباً لنزولها، وحملوا الحديث على التفسير وليس على سبب النّزول أي أن الآية تلاها الرسول - ﷺ - جواباً لسؤال عمر رضي الله عنه قال القرطبي: إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية، وإنما قرأ النبي - ﷺ - الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ، واستدل بها النبي - ﷺ - على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه لا أنها نزلت في هؤلاء، والله أعلم (٣).
ثم لا يخفى أن هذا الأسلوب هو منهج بعض السلف في تفسيرهم للآية فيقولون بعده: فأنزل الله، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى هذا يتضح دفع موهم التعارض بين الآية وما اعتبر سبباً في نزولها، والله - تعالى - أعلم.
قال القاسمي: وقول النعمان: فأنزل الله، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم، وهو هذه الآية، لا بمعنى أنه كان سببًا لنزولها كما بيناه غير ما مرة، وهذا الاستعمال شائع بين السلف، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات، ويحار في المخرج، فافهم ذلك وتفطن له(٤).
دخول الكافر المسجد
الآية:
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمZtB#uن إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا (#qç/uچّ)tƒ y‰إfَ،yJّ٩$# tP#uچysّ٩$# بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ َOçFّے½z Z's#ّٹtم فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ ے¾د&ح#ôزsù إِنْ شَاءَ إِن اللَّهَ يOٹد=tو زOٹإ٦xm ﴾ (٥).
الأحاديث:
(١) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٨/٨٩).
(٢) انظر تفسير القاسمي (٤/٩٧).
(٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٨/٨٩).
(٤) تفسير القاسمي (٤/٩٧).
(٥) سورة التوبة: آية (٢٨).

إن دعاء يوسف عليه السلام وتمنيه الموت كان على فراش الموت كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - ﷺ - جعل يرفع أصبعه عند الموت، ويقول: (اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى)(١) وبذلك يكون جائزاً تمني الموت على فراش الموت ويخصص ذلك من الحديث الموهم للتعارض مع الآية.
جوز هذا القول ابن كثير(٢).
القول الخامس :
ما روي عن قتادة ومجاهد(٣) أن يوسف عليه السلام لما آتاه الله الملك وجمع شمله وأتم الله عليه نعمه اشتاق إلى لقاء ربه تعالى فسأل الله الموت، ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)(٤).
قال ابن رجب رحمه الله: وهو قول جماعة من السلف، منهم الإمام أحمد(٥).
الدراسة والترجيح
الظاهر أن لفظ الآية يحتمل جميع الأقوال السابقة في توجيه دعاء يوسف عليه السلام بتمني الموت مع النهي في الحديث.
(١) أخرجه البخاري في صحيحه، ، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، رقم (٤٤٣٧)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، رقم (٢٤٤٤).
(٢) انظر تفسير ابن كثير (٤/٤١٤).
(٣) انظر تفسير الطبري (١٣/٩٤)، تفسير ابن أبي حاتم (٧/٢٢٠٤).
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث عبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، كتاب الرقاق، باب طلوع الشمس من مغربها رقم (٦٥٠٧، ٦٥٠٨)، ومسلم في صحيحه، من حديث عبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم، كتاب الدعاء والذكر والتوبة والاستغفار، رقم (٢٦٨٣، ٢٦٨٤، ٢٦٨٥، ٢٦٨٦).
(٥) شرح حديث لبيك لابن رجب الحنبلي (٥١).

٣٥٨- المدونة الكبرى، مالك بن أنس، دار الفكر، بيروت، ١٣٩٨ه‍.
٣٥٩- مراتب الإجماع، علي بن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت.
٣٦٠- المراسيل، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، عناية: شكر الله بن نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤١٨ه‍.
٣٦١- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي قارئ، تحقيق: صدقي العطار، دار الفكر، بيروت، ١٤١٤ه‍.
٣٦٢- مرويات غزوة بدر، أحمد العليمي، مكتبة طيبة، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، ١٤٠٠ه‍.
٣٦٣- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، عبد الرحمن السيوطي، شرح وتعليق: محمد جاد المولى بك وآخرون، المكتبة العصرية، بيروت، ١٤١٢ه‍.
٣٦٤- المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين، أبو يعلى الفراء البغدادي، تحقيق: سعود الخلف وأضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٩ه‍.
٣٦٥- المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
٣٦٦- المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد الغزالي، تحقيق: محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٧ه‍.
٣٦٧- مسند أبي يعلى الموصلي، أحمد التميمي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار الثقافة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٣ه‍.
٣٦٨- مسند ابن أبي الجعد، علي بن الجعد الجوهري، تحقيق: عبد الهادي بن عبد القادر، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
٣٦٩- مسند الإمام الشافعي، محمد بن إدريس الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٠ه‍.
٣٧٠- مسند البزار، أحمد بن عمر البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكمة، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، ١٤٠٩ه‍.
٣٧١- المسند، أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، ١٤٠٣ه‍.
٣٧٢- المسند، أحمد بن حنبل، شرح وتحقيق: أحمد شاكر، دار المعارف، الطبعة الثانية، ١٣٦٨ه‍.


الصفحة التالية
Icon