إذا تعذر الجمع بين القرآن والسنة ولم يمكن النسخ بينهما ولا الترجيح، فإن بعض العلماء سلكوا مسلك التوقف، وهو عدم القول بدلالة الدليلين المتعارضين في الظاهر، والتوقف حتى يظهر وجه للجمع بينهما أو دليل على النسخ أو وجه من وجوه الترجيح بينهما.
قال الشاطبي : أما ترك العمل بهما معاً مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح(١).
وقال ابن حجر(٢): فصار ما ظاهره التعارض واقعاً على هذا الترتيب: الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ والمنسوخ فالترجيح إن تعين ثم التوقف عن العمل(٣).
ومما ينبغي التنبيه عليه أن هذا التوقف في الحكم على الدليلين ليس للأبد بل إلى أمد، بحيث متى تبين للمجتهد وجه من وجوه الجمع بين الدليلين أو الترجيح، أو وجد دليل على النسخ قال بذلك ودفع بذلك موهم التعارض.
كذلك لا يخفى أنه لا يوجد دليلان أجمع المسلمون على التوقف فيهما دون سلوك أحد مسالك دفع موهم التعارض، قد يكون ذلك من البعض ولكن لا يكون إجماعاً.
قال الشاطبي: لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف(٤).
المثال على مسلك التوقف:
قوله تعالى: ﴿ إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ دN¨uq"yJ، ،٩$# وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ ٥Q$

ƒr& ﴾ (٥).

(١) الموافقات (٥/١١٢ - ١١٣).
(٢) أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، الشهير بابن حجر، توفي سنة اثنين وخمسين وثمانمائة بعد الهجرة، انظر شذرات الذهب (٩/٣٩٥)، والضوء اللامع (١/٨٧).
(٣) نزهة النظر (٣٦)، فتح المغيث مع متن ألفية العراقي (٣/٧٨).
(٤) الموافقات (٥/٣٤١).
(٥) سورة الأعراف: الآية (٥٤).

١ - عن أبي هريرة رضي الله عنه: بعث رسول الله - ﷺ - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد(١).
٢ - عن الحسن قال: جاء إلى النبي - ﷺ - رهط(٢)من ثقيف، فأقيمت الصلاة، فقيل: يا نبي الله، إن هؤلاء مشركون، فقال: (إن الأرض لا ينجسها شيء)(٣).
وفي رواية عن ابن جريج قال: أنزل النبي - ﷺ - وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم فيه الخيام، يرون الناس حين يصلون، ويسمعون القرآن(٤).
وجه موهم التعارض بين الآية والأحاديث:
من خلال الأحاديث يظهر جواز دخول الكفار المساجد والمكث فيها، وهذا هو ما فعله النبي - ﷺ - معهم، ولكن في الآية الكريمة جاء النهي عن قرب المشركين المسجد الحرام لنجاستهم، فكيف يمكن الجمع بين فعل النبي - ﷺ - وبين النهي في الآية؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
تعددت مسالك العلماء - رحمهم الله تعالى - في دفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث، على ضوء تعدد أقوالهم في حكم دخول الكفار المسجد، وإليك بيان مسالكهم:
أولاً : مسلك الجمع:
قالوا: إن النهي في الآية عام في دخول جميع الكفار، وخاص بالمسجد الحرام، وبذلك يزول إيهام التعارض بين الآية والأحاديث لأن ما جاء في الأحاديث هو في دخول الكفار لغير المسجد الحرام وكان رجاء إسلام أو بإذن المسلمين.
(١) سبق تخريجه ص (٣٠).
(٢) الرَّهْطٌ جمع ليس له واحد: وهم الرجال دون العشرة، انظر مختار الصحاح (١٣٠)، ولسان العرب (٥/٣٤٣).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١/٤١٤)، وابن أبي شيبة في مصنفه (٢/٥٢٦)، والحديث مرسل عن الحسن ورواه البيهقي في السنن الكبرى موصولاً عن عثمان بن أبي العاص (٢/٤٤٤-٤٤٥).
(٤) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١/٤١٤).

ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم أن الراجح والأقرب لسياق الآية هو القول الأول وهو طلبه أن لا يميته إلا على الإسلام لأنه لم يثبت عن يوسف عليه السلام أن اشتكى من فتنة الملك حتى يتمنى الموت بل إنه سأل الله تعالى أن لا يأتي أجله إلا وهو على الإسلام، كذلك لم يثبت عن يوسف أنه سأل ذلك على فراش الموت حتى نقول ذلك خاص بما إذا كان على فراش الموت كما فعل النبي - ﷺ -، بل مما يدل على ضعف هذا القول ما جاء عن الحسن أن يوسف عليه السلام عاش بعد لقاء أبيه وأخوته ثلاثاً وعشرين سنة(١).
قال ابن عطية: وذكر المهدوي تأويلاً آخر وهو الأقوى عندي: إنه ليس في الآية تمني الموت، وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره، أي: توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت(٢).
وبذلك يندفع موهم التعارض بين الآية والأحاديث ويزول الإشكال، والله تعالى أعلم.
القدر المعلق والقدر المبرم
الآية:
قوله تعالى: ﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) ﴾ (٣).
الأحاديث:
(١) انظر تفسير الطبري (١٣/٩٠)، وتفسير ابن أبي حاتم (٧/٢٢٠٢).
(٢) انظر تفسير المحرر الوجيز (٨/٨٦-٨٧).
(٣) سورة الرعد: آية (٣٩).

٣٧٣- مشارق الأنوار على صحاح الآثار، عياضي اليحصبي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٨ه‍.
٣٧٤- مشكاة المصابيح، محمد التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٥ه‍.
٣٧٥- مشكل الحديث وبيانه، أبي بكر بن فورك، تحقيق: موسى محمد علي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٥ه‍.
٣٧٦- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، أحمد البوصيري، تحقيق: محمد الكشناوي، دار العربية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٣ه‍.
٣٧٧- المصنف في الأحاديث والآثار، أبي بكر بن أبي شيبة، الدار السلفية، الهند، ١٣٩٩ه‍.
٣٧٨- المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٣ه‍.
٣٧٩- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، أحمد ابن حجر العسقلاني، تنسيق: سعد الشثري، دار العاصمة، دار الغيث، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٩ه‍.
٣٨٠- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، حافظ الحكمي، تحقيق: عمر بن محمود، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الثالثة، ١٤١٤ه‍.
٣٨١- معالم التنزيل، الحسين البغوي، تحقيق: محمد النمر وآخرون، دار طيبة، الرياض، الطبعة الرابعة، ١٤١٧ه‍.
٣٨٢- معالم السنن شرح سنن أبي داود، حمد الخطابي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١١ه‍.
٣٨٣- معاني القرآن الكريم، أبو جعفر النحاس، تحقيق: محمد الصابوني، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، ١٤٠٨ه‍.
٣٨٤- معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم الزجاج، شرح وتحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٨ه‍.
٣٨٥- معاني القرآن، سعيد الأخفش، دراسة وتحقيق: عبد الأمير محمد أمين الورد، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
٣٨٦- معاني القرآن، يحيى الفراء، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٣ه‍.


الصفحة التالية
Icon