وجه موهم التّعارض بين الآية والأحاديث:
يوهم ظاهر الآية والأحاديث التّعارض، ففي ظاهر الآية نفي رؤية الإنس للجنّ، وأنّ الجنّ يرى الإنسان من حيث لا يراه، وفي الأحاديث الدلالة على إثبات رؤية الإنسان للجنّ، فكيف يمكن دفع إيهام التعارض بين الآية والأحاديث ؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
سلك العلماء تجاه موهم التعارض مسلك الجمع وتعددت أقوالهم إلى أربعة أقوال:
القول الأول:
إن المراد بالنفي في الآية هو نفي رؤية الإنس للجنّ في كلّ حال، وليس نفي رؤيتهم على الإطلاق.
قال به ابن تيمية (١)، والشوكاني (٢) (٣).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي في القرآن أنّهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حقّ يقتضي أنّهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها، وليس فيه أنّهم لا يراهم أحد من الإنس بحال، بل قد يراهم الصّالحون وغير الصّالحين أيضًا، لكن لا يرونهم في كلّ حال(٤).
وقال الشوكاني: وقد استدلّ جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أنّ رؤية الشّياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدلّ على ذلك، وغاية ما فيها أنّه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنّا لا نراه أبدًا، فإن انتفاء الرّؤية منّا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقًا(٥).
القول الثاني:
نفي رؤية الإنس للجنّ على الغالب.
(٢) محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، فقيه مجتهد من أهل صنعاء باليمن، توفي سنة خمس ومائتين بعد الألف للهجرة، انظر البدر الطالع (٢/٢١٤)، والأعلام (٦/٢٩٨).
(٣) انظر فتح القدير للشوكاني (٢/١٩٧).
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية (١٥/٧).
(٥) فتح القدير للشوكاني (٢/١٩٧).
قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ حچ½zFy$# وَلَا tbqمBحhچutن† مَا tPچxm اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ٤س®Lxm يُعْطُوا sptƒ÷"إfّ٩$# عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ (١).
الحديث:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن رسول الله - ﷺ - قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)(٢).
وجه موهم التعارض بين الآية والحديث:
في الآية أمر المسلمين بتخيير أهل الكتاب بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتال وهذا هو منطوق الآية، ومفهومها أن غير أهل الكتاب لا يخيرون، بينما في الحديث خيَّر عموم الكفار بين الإسلام أو القتال دون الجزية مع عدم التفريق بين أهل الكتاب وغيرهم، فكيف يمكن دفع موهم التعارض بين الآية والحديث؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
سلك العلماء - رحمهم الله تعالى - في دفع موهم التعارض بين الآية والحديث مسلك الجمع وقالوا في الجمع بينهما ما يلي:
(٢) سبق تخريجه ص (٢٩).
لا خلاف بين العلماء في عموم رسالة النبي - ﷺ - للناس جميعاً بل إلى الثقلين الإنس والجن، ولكن كيف أجاب العلماء رحمهم الله تعالى عن ظاهر الآية التي تخصص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب دون ما سواهم؟
من أجل الإجابة عن هذا السؤال سلك العلماء مسلك الجمع بين الآية والحديث وأجابوا عن ظاهر الآية بعدة أقوال:
القول الأول:
إن الرسول - ﷺ - بعث إلى العرب وبلسانهم والناس تبع لهم فكان مبعوثاً إلى جميع الخلق لأنهم تبع للعرب، ثم إنه عليه الصلاة والسلام يبعث الرسل بعد ذلك إلى الأقطار، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى الله تعالى، وبذلك يكون الرسول - ﷺ - بعث للناس عامة ولا يكون هناك تعارض بين الآية والحديث.
قال بهذا القول الزمخشري(١)، والرازي في أنموذج الجليل(٢)، والقرطبي(٣)، والخازن(٤)، وأبو حيان(٥)، والشوكاني(٦)، والألوسي(٧).
قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ ﴾ العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفاً على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها، وقيل في الكلام حذف تقديره وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم ومعنى بلسان قومه بلغة قومه(٨).
القول الثاني:
(٢) انظر أنموذج الجليل (٢٣٨).
(٣) انظر الجامع لأحكام القرآن (٩/٣٥).
(٤) انظر تفسير الخازن (٣/٢٨).
(٥) انظر البحر المحيط (٥/٤٠٥).
(٦) انظر فتح القدير (٣/٩٤).
(٧) انظر روح المعاني (١٣/١٨٥).
(٨) البحر المحيط (٥/٤٠٥).
٤٥٥- هدية العارفين إلى أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤١٣ه.
٤٥٦- الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، عناية: هلموت ريتر، دار النشر فرانز شتايز بفيسبادن، ١٤١٢ه.
٤٥٧- الوسيط في تفسير القرآن المجيد، علي بن أحمد الواحدي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرون، مكتبة دار الباز، مكة، الطبعة الأولى، ١٤١٥ه.
٤٥٨- وضح البرهان في مشكلات القرآن، محمود بن أبي الحسن الغزنوي، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه.
٤٥٩- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، علي السمهودي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠١ه.
٤٦٠- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
٤٦١- يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، عب الملك الثعالبي، تحقيق: محمد محي الدين
عبد الحميد، مكتبة الحسين التجارية، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٣٦٦ه.
٤٦٢- يحيى بن معين وكتابه التاريخ، أحمد محمد نور سيف، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، الطبعة الأولى، ١٣٩٩ه.
٤٦٣- اليهود في القرآن الكريم، محمد عزة دروزة، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٠ه.
فهرس الموضوعات
الموضوع... الصفحة
المقدمة... ٢ - ١١
- الافتتاحية... ٣
- أهمية الموضوع وأسباب اختياراه... ٤
- أهداف البحث... ٤
- الدراسات السابقة... ٥
- منهج البحث... ٧
- خطة البحث... ٩
- شكر وتقدير... ١٠
* الدراسة النظرية :... ١٢ - ٥٧
وتشتمل على يلي:
التمهيد: صلة القرآن بالسنة... ١٣
الفصل الأول: موهم التعارض وأسباب نشوئه... ١٦ - ٤٠
... المبحث الأول: تعريف موهم التعارض لغة واصطلاحاً... ١٧ - ٢٠
... المبحث الثاني: أسباب نشوء موهم التعارض بين القرآن والسنة... ٢١ - ٤٠
الفصل الثاني: اهتمام العلماء بدفع موهم التعارض بين القرآن والسنة ومسالكهم تجاهه في ضوء القسم التطبيقي... ٤١ - ٥٧