قال ابن حزم(١): " ويبين صحة ما قلنا، من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي - ﷺ -، وما نقل من أفعاله، قول الله عز وجل مخبراً عن رسوله عليه السلام :﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣، ٤] " (٢).
٣- قوله تعالى :﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
فهذه الآية صريحة في نفي الاختلاف والتعارض و التنازع عن نصوص الشريعة ؛ إذ أمر الله سبحانه وتعالى المتنازعين بالرجوع إلى الكتاب والسنة ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد، ولو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه فائدة، بل يكون بالرجوع إليه زيادة في التنازع والاختلاف(٣).
٤- قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [ الأحزاب : ٢١].
(٢) الإحكام ٢/٢٤٠، وانظر : ١/١٤٢.
(٣) انظر : الموافقات للشاطبي ٥/٦٠، الإعتصام له ٢/٣٠٩.
وجه التعارض المتوهم :
تدل الآيتان الكريمتان على أن من يقتل في سبيل الله شهيداً فهو حي، يرزق عند ربه، وقوله في الحديث :" وأحيا أباك فكلمه كفاحاً " قد يفهم منه أن عبد الله بن حرام - رضي الله عنه - كان ميتاً، ثم أحياه الله تعالى ؛ لتكليمه مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول(١).
دفع موهم التعارض :
لقد خص الله سبحانه وتعالى من يُقتل في سبيله شهيداً بخصائص، منها أنهم يبقون أحياء حياة برزخية لا تماثل حياة الدنيا، ولا تعلم كيفيتها، لكنها أكمل من حياة الدنيا نظراً ؛ لكون الشهداء فيها عند ربهم يرزقون(٢).
قال تعالى :﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥٤]، وقال تعالى :﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩].
قال ابن جرير :" ولا تحسبنهم يا محمد أمواتاً لا يحسون شيئاً، ولا يلتذون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي "(٣).
(٢) انظر : أضواء البيان للشنقيطي ١/٢٣٣-٢٣٤، تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين ٢/١٧٧.
وقد بين ابن جرير في جامع البيان ٢/ ٧٠٠-٧٠٢ الفرق بين حياة البشر من المؤمنين وغيرهم في البرزخ، وبين حياة الشهداء المذكورة في الآيتين.
(٣) جامع البيان ٦/٢٢٧، ٢٢٨. وانظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/٤٧٠.
وهذا الوجه مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وقتادة، وطاوس، والحسن، والربيع بن أنس(١)، وأبي العالية(٢)، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل بن حيان، والزهري(٣).
٣/١٢٨ :" وقال آخرون : بل هي آية قد كان الحكم بها وجب، وعمل به برهة، ثم نسخ الله منها بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وأقربائه الذين يرثونه، وأقر فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه "، وهذا راجع إلى سعة مفهوم النسخ عند السلف والمتقدمين، فهم يسمون التخصيص والتقييد، ونحو ذلك نسخاً، والله أعلم.
قال ابن كثير في تفسيره ١/٤٩٧ بعد أن نقل القول بالنسخ عمن تقدم من الصحابة والتابعين :" ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر ؛ لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ؛ لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى ".
(٢) أبو العالية : رُفَيع ابن مهران الرياحي مولاهم البصري، مخضرم إمام من الأئمة صلى خلف عمر - رضي الله عنه -، ودخل على أبي بكر - رضي الله عنه -، روى عن أبي وعلي وحذيفة - رضي الله عنهم -، مات سنة (٩٠هـ).
انظر : الكاشف للذهبي ١/٣٩٧، تقريب التهذيب لابن حجر ص٢١٠.
(٣) انظر : تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم ١/٣٠٠، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله للنحاس ١/٤٨٣-٤٨٤، أحكام القرآن للجصاص ١/٢٠٤، نواسخ القرآن لابن الجوزي ١/٢٢٧-٢٢٨، تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/٤٩٧.
١- أن أصل الحصار دفاع وليس ابتداء ؛ لأن هوازن وأحلافها من ثقيف، لما سمعوا بمخرج الرسول - ﷺ - من المدينة أخذوا في الاستعداد لقتاله، وحين علموا بفتحه مكة ونزوله فيها، جاؤوا ونزلوا بحنين(١)، يريدون قتال النبي - ﷺ - في معركة حاسمة، فلما سمع النبي - ﷺ - خبرهم واستعد لمواجهتهم، خرج إلى حنين وقاتلهم فيها، وتعقب الفارين منهم، وحاصر من تحصن منهم في حصن الطائف، كما ذكر ذلك المؤرخون(٢).
(٢) انظر : سيرة النبي - ﷺ - لابن هشام ٤/٦٥-٦٨، الفصول في سيرة الرسول لابن كثير ص٢٠٤-٢٠٨، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ل د. مهدي أحمد ص٥٨١-٥٨٣.
وظاهر كلام الشوكاني(١).
قال ابن كثير :" هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه "(٢).
الوجه الثاني : أن المراد بالنهي عن التفضيل والمنع منه حينما يكون فيه تعيين للمفضول، فلا يفضل أحد من الأنبياء أو الرسل على أحد بعينه، أما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة دون تعيين المفضول فجائز.
واستدل القائلون بهذا الوجه بما جاء في بعض الأحاديث أن النبي - ﷺ - قال :" لا تخيروني على موسى"(٣)، وبقوله - ﷺ - :" ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى "(٤)، حيث جاء النهي فيهما عن تفضيل النبي - ﷺ - على واحد بعينه.
وإلى هذا ذهب ابن عطية(٥)، وابن جزي(٦)، وأبو حيان(٧)، وابن عاشور(٨)، واستحسنه أبو العباس القرطبي(٩).
الوجه الثالث : أن النهي عن التفضيل خاص في حال المجادلة والمخاصمة والتشاجر، أو إذا كان التفضيل يؤدي إلى هذه الأشياء ؛ لأن ذلك مظنة عدم احترام الأنبياء، وذكر مالا ينبغي ذكره في حقهم.
(٢) تفسير القرآن العظيم ٥/ ٨٧، وانظر : ١/ ٦٧٤، البداية والنهاية ٢/١٤١.
(٣) سبق تخريجه ص٢٥٦.
(٤) سبق تخريجه ص ٢٥٦.
(٥) انظر : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ١/٣٣٨.
(٦) انظر : التسهيل لعلوم التنزيل ١/١٣٠.
(٧) انظر : البحر المحيط ٢/٤٣٤.
(٨) انظر : التحرير والتنوير ٣/٧.
(٩) انظر : المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ٦/ ٢٣٠، شرح معاني الآثار للطحاوي ٤/٣١٦، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٣/٢٦٣، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ١/١٦٠.
٣٩-٥- قال تعالى :﴿ * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ ڑ ْüإsدے"|، مB... ﴾ [النساء : ٢٤].
موهم التعارض من السنة :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - ﷺ - :" لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها "(١).
وجه التعارض المتوهم :
٢- أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تحقق التعارض، وفي هذه المسألة لا تنافي بين قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... الآية ﴾، وبين الأحاديث التي تدل على إيجاب الوضوء على المحدث فقط، فالآية عامة، والأحاديث مخصصة لذلك العموم، بإيجاب الوضوء على المحدث فقط، ولا تعارض بين عام وخاص، بل يحمل العام على الخاص كما تقدم.
٣- يدل على عدم النسخ أن هذه الآية في سورة المائدة، والمائدة من آخر ما نزل من القرآن، ولهذا قال العلماء ليس فيها حكم منسوخ(١)، مستدلين بقول عائشة رضي الله عنها عن سورة المائدة :" إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه "(٢).(٣).
٤- أن الأحاديث التي استدل بها القائلون على النسخ ليس فيها دليل عليه، وإنما فيها أن النبي - ﷺ - كان يتوضأ لكل صلاة ؛ طلباً للأفضل، فلما خشي أن يظن وجوب ذلك صلى يوم الفتح عدة صلوات بوضوء واحد ؛ لبيان الجواز، وأن الوضوء لا يجب إلا على المحدث(٤).
(٢) أخرجه أحمد في المسند، رقم (٢٥٥٤٧) ٤٢/٣٥٣، والنسائي في الكبرى، في تفسير سورة المائدة، رقم (١١١٣٨) ٦/٣٣٣.
والحديث قال عنه الحاكم في المستدرك ٢/٣٤٠، وقال :" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ".
(٣) انظر : أنوار التنزيل للبيضاوي ١/٤٢١، إرشاد الساري للقسطلاني ١/٢٢٥، إرشاد العقل السليم لأبي السعود ٢/٢٤٢.
(٤) انظر : الكشاف للزمخشري ٢/٢٣٠، المحرر الوجيز لابن عطية ٢/١٦٠، نواسخ القرآن لابن الجوزي ٢/٤٠٥، فتح الباري لابن حجر ١/٣١٦، النسخ في القرآن الكريم ل د. مصطفى زيد ٢/٧١٠.
وأما الوجه الثاني، وهو حمل النهي في الآية على الكراهة، فيحتاج إلى دليل ؛ لأن الأصل في النهي التحريم ما لم يوجد صارف يصرفه إلى الكراهة.
وقد رد هذا الوجه ابن العربي بقوله :" وقوله :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ نهي محمول على التحريم، ولا يجوز حمله على الكراهة، لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، وهذا من نفيس علم الأصول "(١).
وأما مسلك النسخ فيمكن أن يناقش بما يلي :
١- أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، والجمع هنا غير متعذر، فقد سبق ذكر أوجه الجمع، والمختار منها.
٢- أنه لا يوجد ما يدل على صحة النسخ في هذه المسألة، بل الدليل يدل على عدم النسخ، كما قال ابن عبد البر :" وهذا قول ضعيف لا دليل على صحته، ولا يعرف وجه ما قال قائله، وفي الحديث نفسه ـ يعني حديث عائشة المدعى نسخه ـ ما يرده ؛ لأنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه "(٢).
٣- أن القول بالنسخ يحتاج إلى معرفة التاريخ، لكي يعلم المتقدم من المتأخر من الأدلة، والذي يظهر أن الآية نازلة في مكة ؛ لأن الأنعام مكية، وهذا الحديث كان بالمدينة، فكيف يتصور نسخ الآية للحديث مع كونها متقدمة عليه.
(٢) التمهيد ٢٢/٢٩٩.
" لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية، لمحمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٥هـ.
" مباحث المفاضلة في العقيدة، لمحمد بن عبد الرحمن الشظيفي، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى، ١٤٢٣هـ.
" المبدع في شرح المقنع، لإبراهيم بن محمد بن مفلح، المكتب الإسلامي، بيروت.
" المبسوط، لمحمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة، بيروت، ١٤٠٤هـ.
" المبسوط في القراءات العشر، لأحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني، تحقيق : سبيع حاكمي، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، الطبعة الثانية، ١٤٠٨هـ.
" مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، تحقيق : فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، بيروت.
" مجلة البحوث الإسلامية، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، السعودية، عدد (٢٨)، ١٤١٠هـ.
" مجلة جامعة الملك سعود، الرياض، المجلد الخامس / العلوم التربوية والدراسات الإسلامية، العدد الأول.
" مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي، نشر مكتبة الحياة.
" مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٤٠٧هـ.
" المجمل والمبين في القرآن الكريم، لعمر حمزة، رسالة ماجستير في كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، مطبوعة على الآلة الكاتبة.
" المجموع شرح المهذب، ليحيى بن شرف النووي، دار الفكر، بيروت.
" مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ١٤١٦هـ.
" محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق : محمد باسل السود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ.