وقد كان بعض الشيوخ من المحدِّثين لا يقبل في حلقة درسه من الطلاب إلا من درس القرآن أولاً. قال حفص ابن غياث المتوفى سنة ١٩٤هـ: "أتيت الأعمش سليمان بن مهران سنة ١٤٨هـ فقلت: حدثني، فقال: أتحفظ القرآن قلت: لا قال: اذهب فاحفظ القرآن ثم هلمّ أحدثك، قال: فذهبت فحفظت القرآن الكريم ثم جئته فاستقرأني فقرأته فحدثني ".
إخوتي في الله، لما كان الإسناد من خصائص هذه الأمة فقد رعته حق الرعاية، وأولته جل الاهتمام في كثير من العلوم وأول ذلك الكتاب والسنة، وأقوال العلماء في العناية بالأسانيد معلومة وهي في كتب الحديث مبثوثة، منها قول الإمام أحمد رحمه الله: "الإسناد العالي سنة عن سلف "، وقال الشافعي: "مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى ولا يدري "، وقال عبدالله بن المبارك: "الإسناد من الدِّين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ".
وتتبع أقوال المحدثين في ذلك يطول، غير أن الذي ينبغي بيانه هو عناية علماء القراءات بالأسانيد ورحلتهم في طلبها وبيان العالي منها والنازل والمتصل والمنقطع وما به علة قادحة وطرق الأخذ والتحمل، هذا كله موجود عند القراء كما عند المحدثين، فهو عند القراء موجود وجهودهم فيه مشكورة.
وهذا فن قد يخفى على كثير من طلاب العلم لاعتقاد البعض أن تتبع الأسانيد والكشف عنها وتتبع طبقات النقلة والرواة هو من اختصاص علماء الحديث، وفاتهم أن لعلماء القراءات باع طويل في معرفة رجالهم وطبقاتهم ورواتهم بل ولا زالوا يحافظون على أسانيدهم إلى يومنا هذا في الوقت الذي تقطعت فيه كل الطرق والأسانيد في العلوم الأخرى.