وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وَجَعَلَ الْوَاوَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَقِيت زَيْدًا، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ وَجَعَلَ الْوَاوَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَابْتِدَاءِ خِطَابٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ. فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَالِمِينَ بِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِ عَالِمِينَ بِجَمِيعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ يعني شكا ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ : الشُّبُهَاتُ بِمَا هَلَكُوا، لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ; وَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ يَعْنِي تَأْوِيلَ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بَعْضَهُ قَائِلِينَ ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ يَعْنِي مَا نُصِبَ لَهُمْ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي بِنَائِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدِّهِ إلَيْهِ وَمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلًا إلَى عِلْمِهِ مِنْ نَحْوِ مَا وَصَفْنَا. فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيلَ بَعْضِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْضَ قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا أَخْفَى عَنَّا عِلْمَ مَا غَابَ عَنَا عِلْمُهُ إلَّا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَنَا وَمَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَمَا أَعْلَمَنَا وَمَا يُعْلِمْنَاهُ إلَّا لِمَصْلَحَتِنَا وَنَفْعِنَا; فَيَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ الْجَمِيعِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا عَلِمُوا مِنْهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْكَلَامِ وَتَمَامُهُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، وَأَنَّ" الْوَاوَ" لِلِاسْتِقْبَالِ دُونَ الْجَمْعِ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ لَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ ذِكْرَ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْخَبَرِ. وَقَالَ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ قَسْمِ الْفَيْءِ: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: ٧] إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٤] ثُمَّ تَلَاهُ بِالتَّفْصِيلِ، وَتَسْمِيَةُ مَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْفَيْءَ فَقَالَ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] وَهُمْ لَا مَحَالَةَ دَاخِلُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَيْءِ كَالْأَوَّلِينَ، وَالْوَاوُ فِيهِ لِلْجَمْعِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ﴾ [الحشر: ١٠] مَعْنَاهُ: قَائِلِينَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا. كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ مَعْنَاهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي