ويكشف لك الحديث السابق عن الإذن الشرعي الصادر من النبي - ﷺ - والذي يأذن فيه للصحابة الكرام برواية القرآن الكريم عنه - ﷺ - مع التفاوت في الأداء أصولاً وفرشاً.
وثمة أحاديث أخرى في قراءة الصحابة بالقراءات نورد منها: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -:
"أقرأني جبريل على حرفٍ فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" (١٧).
وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب أن النبي - ﷺ - كان عند أَضاةَ بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: "إن الله يأمرك أن تُقْرِيء أُمتكَ القرآن على حرفٍ. فقال: أسألُ الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أُمتك القرآن على حرفين فقال: أسألُ الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرفٍ، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا" (١٨).
وأخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أنَّ رجلاً قرأ آيةً من القرآن، فقال له عمرو إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي - ﷺ - فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرفٍ فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا، أي لا تشكوا ولا تجادلوا" (١٩).
ويجب القول إن المستند الشرعي للإقراء بالقراءات لا يقف عند حدود ما أوردناه من نصوص السنة الشريفة وهي في أعلى درج الصحيح، بل إن أقوى مستند لهذا الوجه إنما هو ذلك التواتر الذي تؤدى به هذه القراءات، وهو الذي لا رتبة فوقه من التواتر، والذي ما زالت جماهير الأمة تتلقاه وتلقّيه منذ عصر النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وستجد في الفصل المخصص للأسانيد بهذه الدراسة مبلغ ما اشتملت عليه أسانيد الإقراء من رجال الضبط والإتقان الذين يبلغون أعلى درجات التواتر في كل حلقة من حلقات الإسناد.
------------
(١٥) لبَّبته: أخذت بردائه.
(١٦) حديث مشهور له روايات كثيرة صحيحة.
انظر البخاري في كتاب الخصومات باب ٤، وفضائل القرآن باب ٥، وكذلك أخرجه مسلم والترمذي والنسائي واللفظ هنا لأحمد بن حنبل.
(١٧) البخاري في فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف رقم الحديث ٤٩٩١، وانظر فتح الباري جـ٩ ص ٢٣.
(١٨) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، حديث رقم ٦٩٣٦، وانظر فتح الباري جـ١٢ ص ٣٠٣. رواه أيضاً الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب الوتر باب ٢٢.
(١٩) رواه أحمد في مسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص جـ٤ ص ٢٠٥، وفي إسناده أبو سلمة الخزاعي، وهو منصور بن سلمة الهندي الليثي من السابعة وقد ضعفوه، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب: مقبول. انظر تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ٢ ص ٢٧٦.
المبحث السادس: القراءات والأحرف السبعة
يقترن اسم القراءات بالأحرف السبعة، ويتبادر إلى الأذهان أن القراءات هي الأحرف، وبخاصة بعد أن اشتهرت القراءات السبع في الأمصار وأصبح الناس يتحدثون عن قراءات سبع وأحرف سبعة.
والأحرف السبعة هي التي جاء الحديث الصحيح بالإشارة إليها في قول النبي - ﷺ -: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر" (٢٠).
وقد روي هذا الحديث عن جمع كبير من الصحابة، فقد روى الحافظ أبو يعلى (٢١) أن عثمان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر "أذكر الله رجلاً سمع النبي - ﷺ - قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كاف. لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا