فشهدوا بذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: "وأنا أشهد معهم" (٢٢) وتوافق هذه الجموع التي لم تحص عدداً على هذا الموضوع حمل بعض الأئمة على القول بتواتر الحديث، وفي طليعة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلام، وإذا لم يتوافر التواتر في الطبقات المتأخرة، فحسبنا صحة الأحاديث التي ذكرناها مؤكَّداً لهذه الحقيقة الدينية التي نطق بها رسول الله - ﷺ - ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة (٢٣).
واختار القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني هذا الرأي وقال: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله - ﷺ - وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف وأخبروا بصحتها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواتراً (٢٤).
وعبارة "الأحرف" وهي جمع حرف ـ الوارد في الحديث تقع على معانٍ مختلفة، فقد تكون بمعنى القراءة كقول ابن الجزري: "كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر" (٢٥) وقد تفيد المعنى والجهة (٢٦) كما يقول أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي (٢٧).
وحكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي شيخ العربية أن القراءات هي الأحرف (٢٨)، ولن تجد كتاباً تعرض لهذه المسألة إلا أشار لهذا القول بالتوهين والتضعيف.
وأحب هنا أن أوضح رأي العلامة الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي ٢٩)، فهو بلا ريب إمام العربية وحجة النحاة، ولاشك أن انفراده بالرأي هنا لم ينتج من قلة إحاطة أو تدبر، ومثله لا يقول الرأي بلا استبصار، وانفراد مثله برأي لا يلزم منه وصف الرأي بالشذوذ أو الوهن!
وغير غائب عن البال أن الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي توفي عام ١٧٠ هـ لم يدرك عصر تسبيع القراءات، حيث لم تشتهر عبارة القراءات السبع إلا أيام ابن مجاهد (٣٠)، وهو الذي توفي عام ٣٢٤ هـ.
ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءاً من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النبي - ﷺ - وتلقاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لم يتيسر من يجمعها بعد ـ أي في زمن الخليل ـ وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النبي - ﷺ -: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".
وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زماناً ومكاناً، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل وهو أمر لا يجهله أحد.
وكذلك أشير هنا إلى رأي شيخ المفسرين الإمام الطبري (٣١) الذي كان يرى أن الأحرف السبعة منهج في الإقراء أذن به النبي - ﷺ - زمناً ثم نسخه قبل أن يلقاه الأجل، وهكذا فقد مات النبي - ﷺ - وليس بين الناس إلا حرف واحد، وأن هذه القراءات المتواترة اليوم مهما بلغت كثرة إنما تدور ضمن هذا الحرف الواحد الذي أذن النبي - ﷺ - بالإقراء والرواية به (٣٢).
ومن أدلته على نسخ الأحرف السبعة أنها لو كانت قرآناً باقياً لم تكن لتخفى عن الأمة بعد أن تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه العظيم في قوله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾، وكذلك حصول الاختلاف في فهمها، وتحديد المراد بها، وقد قال الله سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾.
ومن أدلته على ذلك أن المروي عن السلف في الأحرف السبعة لا يتفق والرسم القرآني، فلم يكن ثمة مندوحة من القول بنسخ ذلك، وقد نقل مكي بن طالب القيسي في الإبانة رأي الطبري فقال: "يذهب الطبري إلى أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن إنما هي تبديل كلمة في موضع كلمة، يختلف الخط بهما، ونقص كلمة، وزيادة أخرى، فمنع خط المصحف المجمع عليه مما زاد على حرف واحد لأن الاختلاف [عنده] لا يقع إلا بتغيير الخط في رأي العين.
فالقراءات التي في أيدي الناس اليوم كلها عنده حرف واحد من الأحرف السبعة التي نص عليها النبي - ﷺ -، والستة الأحرف الباقية قد سقطت، وبطل العمل بها بالإجماع على خط المصحف المكتوب على حرف واحد" (٣٣).
وقد لخص الطبري مذهبه بقوله: "فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية" (٣٤).


الصفحة التالية
Icon