ولم يرد في السنن أن النبي - ﷺ - كان يعقد مجالس القراء على النحو الذي التزمه الأئمة بعده، حيث اتخذ الاختصاص سبيله في الأداء، وإنما كان النبي - ﷺ - يقرأ الآية فور نزولها فيتلقاها عنه كتاب الوحي من خيار الصحابة، ثم تجد طريقها إلى قلوب الحفظة من الأصحاب الذين يقرئون بها الناس.
ولكن كان الأصحاب إذا شكل عليهم باب من القراءة يرجعون إلى النبي - ﷺ - فيصوب لهم ما يقرؤون أو يقرهم فيه.
وبشكل عفوي أخذ كل واحد من الأصحاب قراءة عن النبي - ﷺ -، واشتهر عنهم تسميتها بالحرف، فقيل: حرف ابن مسعود، وحرف أبي، وحرف زيد بن ثابت.... الخ.
وليست هذه الحروف بالطبع هي الأحرف السبعة التي بسطنا القول فيها، ولا هي بالضرورة القراءات السبع أو العشر التي نتحدث فيها، بل قد يحدث أن يسند اثنان من السبعة أو ثلاثة أو أكثر من ذلك إلى رجل من الأصحاب مثل أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، وذلك محمول على أن الصحابي قرأ بالقراءتين جميعاً، كلاً في مقام، وذلك بالتلقي عن رسول الله - ﷺ -، ثم أخذ كل قارئ وجهاً من وجوه هذه القراءة بحسب ما أدى إليه إسناده.
وقد مضى العمل على ذلك في القرون الأولى، حيث يقرأ القارئ حرفاً ويقرئ به، وينفرد لخدمته، وربما أخذ الحرفين، ولكن كان إذا قرأ يقرأ الختمة لإمام ثم يولي ختمة أخرى لإمام آخر.
وأول ما ظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة كان أثناء المائة الخامسة، حيث ظهر أبو عمرو الداني، والأهوازي، وابن شيطا، وأمثالهم من الأئمة الذين تصدروا للإقراء، ورحل الناس إليهم، ولم يكن ثمة بد من منح هؤلاء الطلبة الوافدين حروف الأئمة ليقرؤوا بها في بلادهم، وكان مقتضى ذلك أن يجمع طالب العلم عدة قراءات في الختمة الواحدة، فيقرأ بعشر آيات على حرف ثم يستعرض ما يكون فيها من وجوه القراءات للأئمة ثم يعدوها إلى عشر آيات أخرى، وهذا غاية ما عرف من التساهل في أمر الجمع حينئذ.
وبعد المائة الخامسة استقر عمل كثير من الشيوخ على طريقة إفراد القراءات بختمة على الأقل ثم يتم الجميع بين القراءات، ويعطى الطالب على قدر همته دون تقيد بما كان عليه السلف (عشر آيات) والمعتاد أن تعطى الختمة إفراداً: حزباً حزباً (جزء من ستين حزءاً من القرآن) وفي حالة الجمع تتم الختمة بإعطاء كل نصف حزب بينما ذهب آخرون فيما بعد إلى أكثر من ذلك ولم يجعلوا له حداً، وقد استدل لهذا المذهب بأن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ على النبي - ﷺ - في مجلس واحد من أول سورة النساء حتى بلغ: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾ (٤٨٨) كما ثبت في الصحيح، ومن هذا الباب قال الإمام يعقوب الحضرمي قرأت القرآن في سنة ونصف على سلام، وقرأ الشيخ الشهاب أحمد بن الطحان على الشيخ أبي العباس بن نحلة ختمة كاملة بحرف أبي عمرو بروايتيه في يوم واحد. (٤٨٩)
------------
(٤٨٦) سورة النمل ٣
(٤٨٧) أخرجه البخاري في الصحيح كتاب بدء الوحي
(٤٨٨) سورة النساء ٤١
(٤٨٩) النطق بالقرآن العظيم جـ٢ ص ٦
المبحث الثاني: مذاهب جمع القراءات
جرى عمل شيوخ الإقراء في تلقين جمع القراءات على أربعة مذاهب:
الأول: الجمع بالحرف:
حيث يبدأ القارئ في القراءة، حتى إذا بلغ كلمة فيها اختلاف بين القراء سواء في الأصول أو الفرش فإنه يعيد تلك الكلمة بمفردها، فيستوفي ما للقراء فيها من وجوه، ثم يستأنف.