وفي المدينة كان الأصحاب من الكثرة والاجتماع حول النبي - ﷺ - إلى حد يطمئن فيه المرء أن سائر الوحي تلقته الكتبة في الصحف بحضرة المعصوم - ﷺ -، وهو ما تواترت على إثباته الروايات والقرائن والأدلة.
وأشهر كتاب الوحي بين يدي النبي - ﷺ - أبان بن سعيد بن العاص الأموي، وأبي بن كعب والأرقم بن أبي الأرقم، والزبير بن العوام، وزيد بن ثابت، وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والعلاء بن عقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وسجلّ الكاتب (٥٠٦)
ولم يأمر النبي - ﷺ - بجمع سائر الصحف في كتاب، وذلك أنه كان يتوقع دائماً نزول القرآن الكريم، ونسخ بعض ما نزل، فكان إذا نزلت السورة يقتصر على قوله: اجعلوا هذه مكان كذا وكذا، فيعرف أصحابه الكرام مراده بالترتيب من غير أن تتم الكتابة النهائية لسائر آي القرآن الكريم في مصحف واحد.
قال الخطابي: إنما لم يجمع (القرآن في المصحف لما كان يرقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر، وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن".. الحديث فلا ينافي ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة، وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله - ﷺ -، لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. (٥٠٧)
وهكذا فإن النبي - ﷺ - كان يأمر بكتابة القرآن عنه من غير أن يأمر باستقصاء ذلك كله في مصحف واحد، وكل ذلك بوحي، فالمسألة توقيفية لا مجال فيها للاجتهاد.
وكان رسول الله - ﷺ - يعرض القرآن الكريم في كل عام مرة على جبريل الأمين خلال شهر رمضان، وفي سنته الأخيرة (عرضه مرتين وفي ذلك يقول (: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل شهر رمضان مرّة وإنه عارضني هذا العام مرتين وما أراه إلاّ قد حضر أجلي" (٥٠٨)
فبذلك تم نزول القرآن كله، وتم ترتيبه في مواضعه وتم نسخه في الصحف، كل ذلك بأمر منه - ﷺ - وبين يديه.
------------
(٥٠٦) ترجم لهم جميعاً ابن عساكر في السيرة النبوية في الجزء الثاني من تاريخ دمشق الصفحات من ٣٣١ - ٣٤٦ كما قام الدكتور مصطفى الأعظمي بدراسة خاصة حول هذا الموضوع أصدرها بعنوان: كتَّاب الوحي.
(٥٠٧) الإتقان ص ٥٧.
(٥٠٨) البخاري في كتاب الصوم.
المبحث الثاني: رسم القرآن الكريم في عهد الصحابة
تبين مما سبق أن رسول الله - ﷺ - توفي وعند المسلمين وثيقتان دقيقتان للقرآن الكريم.
١ - الوثيقة الأولى: وهي جماعة الحفاظ الذين قرؤوا القرآن على رسول الله - ﷺ - وهم لا يقلُّ عددهم عن المائة على أقل تقدير، فقد قتل يوم اليمامة سبعون منهم، وقتل يوم بئر معونة (٥٠٩) مثل ذلك، ومن هؤلاء الحفاظ من عرضه مباشرة على رسول الله - ﷺ - وأقام مجالس الإقراء يقرئ الناس فيها، وقد اشتهر من هؤلاء: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري. (٥١٠)
وكان هؤلاء بمثابة القراء الذين يقرؤون على شيوخهم فيحيزونهم، وكان رسول الله - ﷺ - بمثابة شيخ لهؤلاء قرؤوا عليه فأجازهم.
كذلك فإن من الصحابة من قرأ على حفاظ الصحابة في حياة رسول الله - ﷺ - ومنهم من أتم حفظه عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.