أضف إلى ذلك أن هناك من لم يتيسر له حفظ كل القرآن الكريم فحفظ منه أجزاءً وأرباعاً وسوراً متفرقة، وهؤلاء يتجاوز عددهم الألوف، فبذلك لم تكن في القرآن آية إلاّ وقد حفظها المئات من الصحابة على أقل تقدير.
٢ ـ الوثيقة الثانية: وهي الوثيقة المكتوبة، فمن المؤكد أن كتبة الوحي القرآني كتبوا كل آية في القرآن الكريم في صحفهم ـ كما علمت.
فقد كان الكتبة يتلقفون الآيات عن رسول الله - ﷺ - فينسخونها في الصحف فور نزولها، وربما كتب الآية كاتب واحد أو اثنان أو ربما أكثر من ذلك، وعن هذه الصحف، كان كثير من الصحابة ينسخون الآيات في صحفهم الخاصة، بل إن بعض الصحابة جمع لنفسه مصحفاً خاصاً كاملاً.
ومن هؤلاء: عبد الله بن مسعود، وعائشة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وحفصة، وأم سلمة، وأبي بن كعب، وغيرهم كثير (٥١١)
ولم تكن هناك ضرورة لجمع هذه الصحف في مكان واحد خلال حياة النبي - ﷺ - إذ النبي - ﷺ - حي، والحفاظ متوافرون، فضلاً عن عدم إمكان ذلك بسبب تنزل الوحي المستمر، ومن المعلوم أن ترتيب نزول الوحي اتصل حتى الأيام الأخيرة من مرض النبي - ﷺ - الأخير.
أول جمع للقرآن: حين توفي النبي - ﷺ - اشتدت الحاجة لجمع هذه الصحف المكتوبة في مكان واحد تمهيداً لنسخها ضمن المصاحف ليسهل نشرها في الآفاق.
وكان عمر بن الخطاب أول من رأى ذلك وسعى إليه، فقد روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر (عند) مقتل
أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ (كثر) في أهل اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله - ﷺ - قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - ﷺ -، فتتبع القرآن فاجمعه. فقال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله - ﷺ - قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدر الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره.
﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم *﴾ فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وهكذا فإن منهج زيد بن ثابت في كتابة القرآن هو اعتماد الوثيقتين المحفوظة والمكتوبة وقد عثر على سائر آيات القرآن مكتوبة كما كان يحفظها هو وزملاؤه من الصحابة، وهي الوثائق، التي كتبت بين يدي رسول الله - ﷺ -، والخبر يؤكد إنه عثر على أكثر من وثيقة مكتوبة لجميع آيات القرآن إلا وثيقة واحدة مكتوبة، كانت لدى أبي خزيمة الأنصاري، الذي جعل رسول الله - ﷺ - شهادته شهادة رجلين، فطابق بين حفظه وبين الوثيقة التي وجدها، يؤيدها تأكيد عشرات الصحابة الحفاظ ومنهم زيد بن ثابت، فنسخها في المصحف. وخلال فترة قصيرة جمع القرآن كله بوثائقه الأولى لدى أبي بكر الصديق، فنسخت بين اللوحين، وخرجت إلى الوجود أول نسخة كاملة من القرآن الكريم. بالغة التوثيق والتدقيق، وهي في نفس الوقت أول كتاب ينسخ بالعربية.
وفي خلافة عمر بن الخطاب بقي المصحف على حاله لدى عمر، وبقي الاعتماد الأساسي على الحفظ والإقراء، مع الاستعانة بالصحف الخاصة لدى الصحابة، والمصحف الإمام الموجود لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
------------
(٥٠٩) سمي هذا البعث الذي بعثه النبي - ﷺ - يوم بئر معونة: بعث الحفاظ، وغني عن التعريف أن هؤلاء لم يكونوا يحفظون سائر القرآن الكريم، إذ لم يكن قد اكتمل نزوله بعد، ولكن اشتهروا بالحفظ والقراءة.
(٥١٠) طبقات القراء للذهبي.


الصفحة التالية
Icon