مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - ﷺ - قال هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (٥١٤)
لم أجدها مع غيره ﴿لقد جاءكم رسول﴾ ـ حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر (٥١٥).
(الثالثة): ترتيب السور في زمن عثمان. روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنَّه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله - ﷺ - يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ فألحقناها في سورتها في المصحف (٥١٦)
وهكذا فإنه يتبدى لك من رواية الحاكم أن جمع القرآن الكريم كان ثلاث مرات، وقد حظيت كل واحدة من الثلاث بإجماع الأمة واتفاقها، بحيث لا تجد لها مخالفاً، وتواتر إسناد هذا بالضبط على الوثائق برواية العدول الثقات، البالغين من الوفرة حداً يقطع الارتياب، ويجعلك تأمن تواطؤهم على الكذب.
وسنأتي على تفصيل رجال الإسناد في الفصل المخصص لذلك في أسانيد القراء. (٥١٧)
وبعد هذا العرض لمراحل الرسم القرآني حتى عهد عثمان بن عفان فإن الذي يعيننا من ذلك هو شكل الرسم الذي رسمت به المصاحف وعلاقته بالقراءات المتواترة.
من المعلوم أن الجمع الذي قام به أبو بكر رضي الله عنه كان يتضمن الكتبة الأولى التي كتبت بحضرة النبي - ﷺ - الأصحاب وفق معارفهم السابقة: (ولم يؤخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسم بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف) (٥١٨)
وهكذا فإن من المفترض أن هذا الرسم لم يكن يؤدي غالباً إلا قراءة واحدة، وهي القراءة التي تلقاها الصحابي عن النبي - ﷺ - في أحد المجالس.
فمثلاً في سورة آل عمران ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض﴾ (٥١٩) فقد قرئت هذه الآية بواو (٥٢٠) في وسارعوا، وقرئت بغير واو (٥٢١)، ولما كان مصحف أبي بكر رضي الله واحداً فإنه من المفترض أنه اشتمل على أحدا الرسمين، ولكن من المؤكد أن وثيقة أخرى كتبت بالرسم الآخر، وكانت موجودة في المجموعة التي توفرت لدى الصديق رضي الله عنه من الوثائق.
وحينما كتب مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ونسخ في الأمصار كان من أهم النقاط التي لحظتها تلك المصاحف أنها عالجت مواضع اختلاف الرسم
------------
(٥١٢) الخلاف في عدد المصاحف العثمانية مشهور، وهي تدور بين أربع أو خمس أو سبع أو ثمان نسخ من المصاحف، وليس هذا محل تحقيق الخلاف. انظر الإتقان للسيوطي ـ البرهان للزركشي.
(٥١٣) انظر الملاحق في آخر الكتاب.
(٥١٤) تعددت الأقوال هنا في تحرير اسم واجد الصحيفة، والأصح أنه خزيمة بن ثابت كما سيأتي في الجمع الثالث، ولم يشر ابن حجر في الإصابة إلى وجود صحابي باسم أبي خزيمة الأنصاري، ولكنه حقق المسألة في الفتح جـ٩ ص ١٥ فقال: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد (مع خزيمة بن ثابت) أخرجه أحمد والترمذي. ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة (مع خزيمة


الصفحة التالية
Icon