ولم يكن عمل الشاطبي هذا إلا نظماً على كتاب التيسير لأبي عمرو الداني الذي صنف كتابه لبيان قراءات الأئمة التي اعتمدها ابن مجاهد، ولكن نظم الشاطبي هو الذي طاف بالبلاد وحفظه طلاب هذا الفن، وهكذا فإن عمل الشاطبي والداني تكاملا في تقرير العمل باختيار ابن مجاهد للقراءات السبع على أنها تمثل جميع المتواتر من قراءة المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وحتى اليوم فإن منظومة الشاطبي هي أدق ما صنف في باب القراءات، وعنها يأخذ طلبة العلم في التلقي والمشافهة.
وهكذا فإن اختيار ابن مجاهد ازداد رسوخاً بتكريس الشاطبي له أصولاً وفرشاً، ومضت ثمانية قرون وإن الأمة لا تسلِّم بالتواتر لغير هؤلاء السبعة.
------------
(١٦٥) الشاطبي (٥٣٨ - ٥٩٠ هـ=١١٤٤ - ١١٩٤ م) هو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي: إمام القراء، كان ضريراً، ولد بشاطبة (في الأندلس) وتوفي بمصر، وهو صاحب (حرز الأماني) وهي قصيدة في القراءات تعرف بالشاطبية. وكان عالماً بالحديث والتفسير والفقه، قال ابن خلكان: كان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه، والرعيني نسبة إلى ذي رعين أحد أقيال اليمن.
المبحث السادس: ابن الجزري ودوره في نشر القراءات
مضى القرن الرابع الهجري وقد أطبقت الأمة على تواتر القراءات السبع كما اختار ابن مجاهد، وراحت المدارس الإسلامية تبذل الجهود المتضافرة في إظهار أسانيد هذه القراءات السبع وتحديد رواتها وطرقها، حتى بلغت في ذلك الغاية.
ولكن القراءات الأخرى لم تعدم من يدافع عنها ويحاجج لها، ويكشف عن أسانيدها بغرض إثبات التواتر في روايتها وإسنادها.
وبالفعل فقد أنكر كثير من العلماء على ابن مجاهد إعراضه عن قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع (١٦٦)، وهو الذي قال فيه مجاهد بن جبر (١٦٧) الإمام المفسر: لم يكن بالمدينة أحد أقرأ للسنة من أبي جعفر، وهو من أعلى القراء إسناداً إذ توفي عام ١٣٠ هـ.
كما اعترض على ابن مجاهد في تركه لقراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي (١٦٨) البصري، وقد أطبقت كلمة القراء والحفاظ على موثوقيته وعلوه في الإسناد وإمامته (١٦٩)، حيث انتهت إليه رياسة الإقراء بعد أبي عمرو البصري (١٧٠)، ووصفه أبو حاتم السجستاني (١٧١) بأنه أعلم من رآه بالحروف، والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهب النحو.
ومن الأعمال الجليلة التي صنفت متضمنة بيان منزلة الإمام المقرئ يعقوب: التذكرة في القراءات الثمان للإمام أبي الحسن طاهر بن غلبون المقرئ الحلبي (١٧٢)، وكذلك: التلخيص في القراءات الثمان للإمام أبي معشر عبد الكريم بن عبد الصم الطبري، وقد ضم كل منهما قراءة يعقوب إلى السبعة الكبار، وبسطوا أصولها وفرشها (١٧٣).
كذلك فإن خلف بن هشام راوية حمزة، انفرد بقراءة مستقلة مخالفة لأصول حمزة، وهو مشهور بعلو الإسناد والرسوخ في العلم.
ومع ذلك فلم يستطع أحد أن يلحق هذه القراءات الثلاث بالسبع المتواترة، بالرغم من اشتهار أسانيدها، ومنزلة رجالها، وكان علينا أن ننتظر خمسة قرون أخرى حتى يجيء ابن الجزري الذي بلغ في القرن التاسع منزلة فريدة في مرجعية الإقراء تسامي ما كان عليه ابن مجاهد في القرن الرابع.
وفي مطلع القرن التاسع كان ابن الجزري أصبح مرجع العالم الإسلامي في القراءة والإقراء، ولذلك فإنه أعاد على بساط البحث مسألة القراءات الثلاث التي اختلف في تواترها، وقام بإثبات تواتر أسانيدها بالحجج الواضحة، ثم كتب نظماً من البحر الطويل على نهج الشاطبية أسماه الدرة المضية في القراءات الثلاث تتمة العشر وبذلك فإنه بوأ هذه القراءات منزلة السبع المتواترات التي قررها ابن مجاهد.
ثم صنف بعد ذلك كتابه الشهير: النشر في القراءات العشر، وأورد فيه زيادة على القراءات الثلاث، وجوهاً أخرى للأئمة السبع لم يكن الشاطبي قد أشار إليها من قبل.
فمن ذلك أن الشاطبي أشار إلى أن المنقول عن عاصم أنه يمد المنفصل، وذلك في قوله:
إذا ألفٌ أو ياؤُها بعدَ كسرةِ * أو الواوُ عن ضمٍّ لقي الهمزَ طوّلا
فإن ينفصلْ فالقصرَ بادِرْه طالباً * بخلفهما يرويكَ درّاً ومخضلاً