فأخبر أن الذين قرؤوا بقصر المنفصل هم المرموز إليهم بالباء وهو قالون، وبالياء وهو السوسي، وبالدال وهو ابن كثير فتعين للباقين المد لا غير.
ولكن ابن الجزري تعقبه في ذلك فقال في الطيبة:
..... وقصرَ المنفصلْ * لي بِنْ حِما عَنْ خُلْفِهم داعٍ ثَملْ
فأخبر أن الذين قرؤوا بقصر المنفصل هم المرموز إليهم باللام وهو هشام، وبالباء وهو قالون وبـ (حما) وهم أبو عمرو ويعقوب، وبالعين وهو حفص بخلاف عنهم، ثم بالدال وهو ابن كثير المكي، وبالثاء وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع بوجه واحد.
والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
ولم يكن ابن الجزري لينفرد بهذا الاختيار من تلقاء نفسه لو لم تكتمل لديه آلة هذا العلم من المصادر الغنية الموثوقة التي تمثل خلاصتها زبدة هذا العلم ومادته، وهي التي لا زالت مرجع القراء والحفاظ في هذا الفن.
وخلال الفترة ما بين ابن مجاهد وابن الجزري كتبت الكتب الأمهات في علم القراءات، وأصبح واضحاً لكل مشتغل بهذا العلم أن هذا العلم قد نضج واكتمل، وأن الحاجة فيه إلى الترتيب والاختيار باتت مؤكدة، وأصبح العلماء ينتظرون كلمة الحسم التي جاء بها ابن الجزري فيما بعد.
ونستعرض هنا أهم الأعمال التي تم إنجازها خلال هذه الفترة، وهي في ذات الوقت المصادر الأم التي اتكأ ابن الجزري عليها حينما قدَّم للناس كلمة الفصل في القراءات المعتمدة. وهي على ترتيب وفيات مؤلفيها:
ـ كتاب السبعة: للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي المتوفي بها سنة ٣٢٤ هـ (١٧٤).
ـ كتاب التذكرة في القراءات الثمان: للإمام أبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غليون الحلبي نزيل مصر والمتوفى بها سنة ٣٩٩ هـ (١٧٥).
-كتاب المنتهى في القراءات العشر: للإمام أبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المتوفى سنة ٤٠٨ هـ (١٧٦).

-كتاب التبصرة للإمام أبي محمد، مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني ثم الأندلسي المتوفى سنة ٤٣٠ بقرطبة (١٧٧).
ـ كتاب الروضة في القراءات الإحدى عشر للإمام أبي علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي المالكي نزيل مصر المتوفى سنة ٤٣٨ هـ (١٧٨).
ـ كتاب التيسير: للإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الدَّاني الأندلسي المتوفى بها سنة ٤٤٤ هـ (١٧٩).
ـ كتاب جامع البيان في القراءات السبع: للإمام الداني السابق الذكر (١٨٠).
ـ كتاب المستنير في القراءات العشر:
للإمام أبي طاهر أحمد بن علي بن سوار البغدادي المتوفى بها سنة ٤٩٦ هـ (١٨١).
ـ كتاب الشاطبية: حرز الأماني ووجه التهاني: للإمام القاسم بن فيرة الشاطبي المتوفى بالقاهرة سنة ٥٩٠ هـ (١٨٢).
ـ كتاب شرح الشاطبية: للإمام أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المتوفى بدمشق سنة ٦٤٣ هـ (١٨٣).
-كتاب جمال القراء وإكمال الإقراء: للإمام السخاوي علي بن محمد المتوفى سنة ٦٤٣ هـ (١٨٤).
ـ كتاب مفردة يعقوب: للإمام أبي محمد عبد الباري بن عبد الرحمن الصعيدي المتوفى بالإسكندرية سنة ٦٥٥ هـ (١٨٥).
واليوم يمكن القول بأن جهود ابن مجاهد التي أكملها ابن الجزري فيما بعد قد قطعت الجدل في أمر القراءة المقبولة والمردودة وأصبح سائر المقبول من القراءات مدوناً في السبعة التي اختارها ابن مجاهد، والثلاث التي استكملها ابن الجزري.
وكل ما سوى هذه القراءات العشر فهو قراءات شاذة تروى على أنها من كلام العرب ولا يجوز القراءة بها في الصلاة وقد عرف منها أربع قراءات مدونة وهي قراءات يحيى اليزيدي (١٨٦) وابن محيصن (١٨٧) والأعمش (١٨٨) والحسن البصري (١٨٩) وما سواها فهو غير مدون لا ضابط يضبطه (١٩٠)، ولا يوجد موجب شرعي لجمعه وإحصائه، ولكن جمعه وإحصاءه مفيد لجهة معرفة آراء السلف في اللغة والفقه والتفسير.
وينبغي أن نشير إلى أن غالب منشأ هذه القراءات الشاذة إنما هو تلك الملاحظات التي كان يدونها أصحاب المصاحف الخاصة على مصاحفهم كما في مصحف أبي ابن كعب، ومصحف علي بن أبي طالب، ومصحف أم سلمة، وعبد الله بن الزبير، وابن مسعود، والحسن البصري، على سبيل التفسير والإيضاح فيتناقلها الناس من بعده على أنها من القرآن الكريم.


الصفحة التالية
Icon