وقد عني النبي - ﷺ - بالإسناد، وهو في الحقيقة لم يكن فيما يبلِّغه إلا مُسْنِداً عن الله عز وجل، وإضافة إلى ذلك فقد أسند - ﷺ - عن بعض أصحابه، وأشهر مثال على ذلك هو حديث تميم بن أوس الداري المسمى "حديث الجساسة"، وهو ما يعرفه علماء الإسناد في باب رواية النبي - ﷺ - عن الصحابة، حيث روى عن تميم الداري في حديث الجساسة. وذلك حين دعا الناس إلى المسجد، ثم قال:
(اجلسوا أيها الناس، فإني لم أقم مقامي هذا لفزع، لكن تميماً أتاني فأخبرني خبراً منعني من القيلولة من الفرح وقرة العين فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيكم - ﷺ -:
أخبرني أن رهطاً من بني عمه ركبوا البحر فأصابتهم ريح | إلى آخر الحديث) (١٩٥). |
﴿قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ (١٩٦)
﴿وما على الرسول إلا البلاغ المبين﴾ (١٩٧)
﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه﴾ (١٩٨)
وقد كانت العرب تهتم بالإسناد وتعنى به، وربما تستحلف الناقل في موثوقية ما يرويه.
ففي حديث ضمام بن ثعلبة حين وفد إلى النبي - ﷺ - وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله ثم دخل المسجد ورسول الله - ﷺ - جالس في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله - ﷺ -: أنا ابن عبد المطلب، قال: محمد؟ قال: نعم، فقال: ابنَ عبد المطلب.. إني سائلك ومغلظٌ في المسألة، فلا تجدنَّ في نفسك، قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك، قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها، يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف راجعاً إلى بعيره (١٩٩).
والحق أن إيراد هذه النصوص ليس على سبيل الاحتجاج بالإسناد بقدر ما هو على سبيل الاستئناس، وبالطبع فإن ما نورده من إسناد النبي - ﷺ - عن جبريل الأمين وعن تميم الداري لا يشبه ما نحن بصدده من تقرير إسناد الرواة عن التابعين، والتابعين عن الصحابة، والصحابة عن النبي - ﷺ -، فثمة هناك كلام كثير في موثوقية الرواة وعدالتهم وضبطهم لا يتصل بما نحن فيه، إذ لا مساغ للبحث في عدالة النبي - ﷺ - وإسناده الجليل، بعد أن زكاه الله سبحانه بقوله:
﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (٢٠٠)
------------
(١٩٥) رواه الإمام مسلم في الصحيح كتاب الفتن باب ٤٨، رقم الحديث ٢٠٥٤، انظر مختصر صحيح مسلم للمنذري ص ٦١٧ وهو في مسند أحمد بن حنبل جـ٦ ص ٤١٧
(١٩٦) سورة يونس ١٥
(١٩٧) سورة العنكبوت ١٨
(١٩٨) سورة فصلت ٤
(١٩٩) رواه الإمام مسلم في كتاب الفتن باب ٤٧، ورواه أحمد بن حنبل في المسند جـ١ ص ٢٦٤ عن عبد الله بن عباس، وزاد فيه قوله - ﷺ -: إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة.
(٢٠٠) سورة نون ٥
المبحث الثالث: الإسناد والتوثيق في عهود السلف