وقد جاء هذا الكتاب خطاباً عاماً للأمم كافة فى كل زمان وفى أى مكان، لذلك راعى اختلاف عقول الناس، وما تستوعبه منه، فشمل ما يلبى رغبات الخواص فألمح أشار، ونوه، وعرّض، ونوّع، فى أوجه الإعراب، فاشتمل على الدقائق التى لا يطلع عليها إلا بصير حصيف.
وشمل أيضاً ما يلبى رغبات العوام فأفصح وأبان، وأرهب ورغب، وعلل ووجه، فاشتمل على صنوف من القول، وفنون من البلاغة، وذلك لأنه الكتاب الخاتم الذى لا كتاب بعده، المنزل على الرسول الخاتم الذى لا رسول بعده. ومع ذلك فقد اعترض بعض أهل النحو على بعض قراءاته الثابتة، زاعمين أنها خالفت قواعد النحو.
وقد أخطأوا فى قياس آيات القرآن الكريم على قواعد النحو أيما خطأ، بل أجرموا أيما إجرام ؛ لأن القرآن الكريم هو كلام الله المعجز لأساطين البيان والبلاغة، وأنه أصل اللغة، ومنه تستنبط قواعدها، وعلى ضوء آياته تضبط اللغة، وتصحح هيئاتها.
وإنى إذ أؤكد هذه الحقيقة آتى إلى بعض تلك القراءات التى ادعوا أنها خالفت قواعد العربية، لأبين أنها لم تخالفها بل لها فى وجوه العربية ما يؤيدها، ليتقرر من خلال ذلك أن هذه الدعوى تنبئ عن قصور قائليها وعدم درايتهم بكل أوجه العربية.
ومما أوردوه فى هذا المقام ما يلى:
المثال الأول:
قال تعالى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام ))(١)
حيث قرأ حمزة - وهو أحد القراء السبعة - (والأرحامِ) بالخفض. وفى هذا يقول صاحب الشاطبية: وحمزة والأرحامِ بالخفض جملا(٢)
عارض النحاة هذه القراءة بحجة أنه لا يجوز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور إلا بإعادة حرف الجر - كما هو مقرر فى قواعد النحو وهو اتجاه البصريين - ومنه قوله تعالى: ((فخسفنا به وبداره الأرض))(٣)
(٢) الوافى فى شرح الشاطبية - ص ١٦٧
(٣) سورة القصص : ٨١