ومهما يكن فلقد لمست من خلال هذه الرحلة المباركة في رحاب المدرسة المغربية في مسيرتها التاريخية الطويلة الأمد كيف تغلغلت قراءة نافع وأرست جذورها في البلاد، وبسقت فروعها فأزهت وازدهرت وأثمرت في كل الجهات، وكيف كان لرواية ورش من بين رواياتها المتعددة الحظوة الكاملة والمكانة البارزة التي لم تزاحمها عليها قراءة ولا رواية، وتبين لي كيف وشجت هذه الرواية في الكيان المغربي فأصبحت جزءا لا يتجزأ منه حتى اشتقت منها الأسماء والألقاب فقيل لمن يتقن بعض الروايات عن نافع "نافع"(١)، ولمن يغلب عليه الاشتغال بروايتها أو اقرائها "الورشي"(٢)، ولمن يتقنها وحدها "الوراشي"(٣).
وبلغ الغلو مداه عند بعضهم حتى زعم أن قراءة أهل الجنة برواية ورش"(٤).

(١) - لقب بهذا اللقب القارئ سعيد بن محمد النحوي أبو عثمان القرطبي لقبه به كما سيأتي الشيخ أبو الحسن الأنطاكي نزيل قرطبة لكثرة ما قرأ عليه القرآن بحرف نافع، فقال له: "أنت نافع" وسينفع الله بك، فجرت عليه (يمكن لمزيد من المعرفة به الاطلاع على ترجمته في موضعها من البحث.
(٢) - نسب هكذا من قراء قرطبة محمد بن أحمد بن عبد الأعلى "نسب إلى قراءة ورش لاشتهاره بها" نفح الطيب للمقري ٢/٤١٣.
(٣) - لا يزال هذا الاستعمال شائعا إلى اليوم في البوادي المغربية ويعبر به عمن يتقن هذه الرواية أو من يعرفها وحدها دون غيرها من الروايات.
(٤) - ينظر في ذلك حاشية الشيخ يوسف بن سعيد السفطي المالكي على متن الجواهر الزكية في حل ألفاظ العشماوية".. وكذا "إتحاف القراء المتحزبين" للحسن بن محمد ابعقيلي السوسي ٥٦.

وإذا كان الحصري الشاعر الأديب قد نال حظا كبيرا، من عناية الأدباء والدارسين قديما وحديثا(١)، فإن الحصري المقرئ حامل راية المذهب القيرواني في الأداء لم ينل من تلك العناية إلا يسيرا لا يزيد على بعض الأسطر هنا وهناك ضمن طائفة من الدراسات أو المقالات مما لا يتناسب مع المنزلة الرفيعة التي احتلها في الميدان والريادة العلمية التي نبهنا عليها سابقا بالنسبة للمدرسة المغربية في سبقه إلى حصر أصول روايتي ورش وقالون في إطار من النظم التعليمي الرفيع، وفي تخليده لمذاهب مدرسته في قصيدته السائرة الآتية.
رجال مشيخته في القراءات
تولى الإمام أبو الحسن الحصري بنفسه التعريف بأسماء أساتذته في القراءات السبع في قصيدته في قراءة نافع فقال:-...
أعلم في شعري قراءة نافع رواية ورش ثم قالون في الاثر
وأذكر أشياخي الذين قرأتها عليهم فأبدا بلامام أبي بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة بدأت ابن عشر ثم أتممت في عشر
ولم يكفني حتى قرأت على أبي علي بن حمدون جلو لينا الحبر
وعبد العزيز المقرئ بن محمد أثير ابن سفيان وتلميذه البكري
أئمة مصر كنت أقرأ مدة عليهم ولكني اقتصرت على القصري
فأجلسني في جامع القيروان عن شهادته لي بالتقدم في عصري
وكم لي من شيخ جليل وانما ذكرت دراريا تضيء لمن يسري
ولمزيد من البيان نسوق أسماء أساتذته المذكورين مع مزيد من التفصيل حسب ترتيبهم في الذكر، فأولهم:
(١) - من ذلك الدراسة "علي الحصري ـ دراسة ومختارات" للأستاذين التونسيين محمد المرزوقي والجيلالي يحيى ـ نشر الشركة التونسية للتوزيع ط٢: ١٩٧٤. ومنه البحث المعقود عن "رائية" الحصري ومنظومات معارضة لرائية الخاقاني لمحمد محفوظ (نشر مجلة الفكر التونسية ص١ عدد ١٠ ـ حوليات الجامعة التونسية: العدد ١ السنة: ١٩٦٤.


الصفحة التالية
Icon