لا شك أن الإحساس بالحاجة إلى قراءة واحدة جامعة بدأ يظهر منذ أيام الخلفاء الراشدين، ولكن كثرة القراءات المأثورة في حروف القرآن مما كان يقرأ به الصحابة انطلاقا من الرخصة في ذلك مما أقره النبي ﷺ وأذن فيه وانطلاقا من الحديث الشريف "ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا كما علمتم"(١)ـ كان يحول دون قيام هذا المشروع، وكل ما أمكن التفكير فيه والإعداد زمن خلافة عمر، ثم جرى تنفيذه زمن خلافة عثمان، هو توحيد الحروف المتواترة في صورة من الخط واحدة تحتمل ما هو ثابت في القراءة مع إبقاء قدر من المرونة يتسع لوجوه الخلاف التي تقبلها العربية من جهة، وتتفق مع ما هو يقيني ثابت في الرواية والنقل الصحيح مما اشتهر واستفاض، وكان هذا هو الباعث على تجريد المصاحف الأئمة من النقط والشكل(٢). ولقد تأتى بهذا الأسلوب في التدوين حصر الحروف المتداولة بين القراء في دائرة المرسوم في هذه المصاحف التي أرسلت إلى الأمصار المشهورة، وأرسل عثمان معها مبعوثين رسميين يقرئون الناس بما فيها من حروفه لا يتجاوزونه إلى غيره(٣)،
(٢) - يمكن الرجوع في سبب تجريدها من النقط والشكل إلى المحكم للداني ص ٣- والنشر لابن الجزري ١/٣٣.
(٣) - أرسل عثمان المصاحف مع طائفة من القراء "فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري" (مناهل العرفان في علوم القرآن) للزرقاني ١/٣٩٦-٣٩٧)..
وسوف نرى من خلال تقريظ العلماء والقراء لآثاره وتقديرهم لها مزيدا من التنويه بشخصيته والاعتراف له من لدن أهل هذا العلم بالنبوغ البعيد المدى والبراعة المنفطعة النظير في مجال النظم التعليمي والإحاطة والحذق في الفن، والقبول الذي لقيته آثاره بوجه عام. وهذه أهم آثاره العلمية وما قام عليها من نشاط.
آثاره:
على الرغم من ضرارة الشاطبي ـ رحمه الله ـ بفقدانه لحاسة البصر التي هي من أهم عمد المبصرين في الاشتغال بطائفة من الفنون المتصلة بالقراءة كالرسم والضبط واستقراء القواعد فإنه مع ذلك قد أسهم في إغناء المكتبة القرآنية بإنتاج أصيل ومتنوع يتناسب مع الطور الذي عاش فيه، قام عليه إنتاج علمي غني في مختلف العصور اللاحقة.
وقد استخدم أسلوب النظم التعليمي استخداما عجيبا في تقريب طائفة من علوم القراءة على المتعلمين وتيسيرها للحفظ، فجاءت آثاره كلها على هذا النسق مصوغة في قوالب رائعة استهوت معارضتها عددا كبيرا من أئمة هذا الشأن في مختلف العصور، كما قامت على بيان مقاصده فيها ووصلها بأصولها التي أخذها منها حركة زاهية لم تفتر ولم يتوقف سيرها واستمرارها منذ زمنه إلى اليوم.
ولئن كنا قد نوهنا بمقام الريادة في أسلوب النظم التعليمي عند مثل الإمام أبي عمرو الداني في الأرجوزة المنبهة التي ضمنها كثيرا من تاريخ القراءة وأحكامها وأصولها الأدائية، ومثل الإمام أبي الحسن الحصري الرائد في النظم في أصول قراءة نافع خاصة، فإننا نعتبر الإمام الشاطبي رائدا بصفة خاصة في استيعاب أحكام القراءات السبع ومسائل الخلاف فيها أصولا وفرشا مع اصطناع الرموز بكيفية بارعة لضبط هذه المسائل ونسبة كل حرف إلى من قرأ به من القراء والرواة عنهم. وهذه آثاره المعروفة مع تقديم تعريف بها وما قام حولها من نشاط: