ولم يلبث القراء أن أخذوا يتحاشون ما خرج عن هذه المصاحف مما يسمى بالشواذ، ويهجرونها في القراءة والإقراء، وظهر في الأمصار الكبرى جماعة من كبار الأئمة تفرغوا لهذا الشأن ـ رأينا طائفة كبيرة من أسمائهم في النص الذي نقلنا عن أبي عبيد ـ وتجردوا لتمحيص الروايات وتجريد الحروف المتواترة في النقل، ونشرها في القراءة والأداء، فعول الناس في كل مصر على مجموعة معدودة معينة من هذه القراءات التي اختارها لهم أولئك الأئمة، وكان ظهور تلك القراءات ابتداء من النصف الثاني من المائة الأولى، إلا أن انتشارها بشكل واسع كان بعد ذلك في أثناء المائة الثانية فما بعدها.
وكان كل إمام من الأئمة المذكورين في مصر على رأس مدرسة، ومدار نشاط كبير في الإقراء، وذا أثر في القراءة لا يقف في حدود المصر الذي ينتسب إليه، وإنما يتجاوزه في أحيان كثيرة إلى الأقطار المجاورة والآفاق البعيدة، الأمر الذي كان يطير بشهرتهم في كل اتجاه، ويجعل الطلاب من كل حدب وصوب يشدون إليهم الرحال رغبة في الأخذ عنهم ووصل أسانيدهم في القراءة بهم، وتحقيقا لمزيد من الضبط وصحة الإسناد.
١- قصيدته "حرز الأماني ووجه التهاني" وتسمى أيضا بـ"القصيدة" وبـ"اللامية" أو "الشاطبية الكبرى". وموضوعها القراءات السبع المشهورة، وسيأتي الحديث عنها في آخر هذه القائمة.
٢- قصيدته الرائية "عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد" وتسمى أيضا بـ"الرائية" و"العقيلة" أو الشاطبية الصغرى"، وموضوعها رسم المصحف العثماني، وسيأتي الحديث عنها أيضا.
٣- القصيدة الرائية أيضا في عدد الآي "ناظمة الزهر"، وجاء اسمها في بعض الفهارس: ناظمة الزهر في الاعتداد، واختلاف أهل البلاد"(١). وسياتي التعريف بها.
٤- قصيدته الدالية في نظم "التمهيد"لأبي عمر بن عبد البر في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس.
يظهر أن الشاطبي قد لخص فيها أبواب الكتاب، وبين منهج مؤلفه في مباحثه بحيث تيسر على قارئها الانتفاع به، وجملتها كما ذكر صاحبه أبو الحسن السخاوي ٥٠٠ بيت "من حفظها أحاط علما بكتاب التمهيد"(٢).
ولم أقف للقصيدة على ذكر عند أحد من الرواة عنه ولا غيرهم، ولعلها استعملت استعمالا محدودا ثم نسيت، بل إن السخاوي نفسه الذي هو أنبل أصحابه لا يذكر أنه سمعها أو علم عنها أكثر مما أخبره الناظم نفسه(٣).
٥- قطعته في جذور "الظاءات القرآنية" وقد ذكرناها في ترجمة أبي العباس المهدوي وأبي عمرو الداني لنظمهما في ذلك كما قدمنا. وهذه أبيات الشاطبي:
(٢) - فتح الوصيد للسخاوي لوحة ٣ـ٤.
(٣) - قال في فتح الوصيد:"واخبرني أنه كتاب التمهيد... الخ" ولم يذكر أنه سمع منه القصيدة أو وقف على شيء منها، ولعل الشاطبي قد عدل عن جميع أنشطته المختلفة واقتصر على الأخذ بالمبذأ الذي قدمناه وهو قوله: "ليس للعميان إلا القراء" وقوله لصاحبه وصهره أبي الحسن بن شجاع: "من الفضول أعمى يقرأ الأصول" كما ذكره في الذيل والتكملة السفر ٥ القسم ٢/٥٤٨ـ٥٥٧.