ولقد كان هذا النشاط على أشده في الأمصار الإسلامية، والبلاد الافريقية والمغربية يومئذ في بداية تكوينها العلمي، انما يصلها من أصداء ذلك ما كانت تسمح به الصلات النسبية بين القيروان وبين الجهات الشرقية سواء من حيث التبعية السياسية، أم من حيث الاستفادة ممن كان يرد عليها من هذه الأمصار من الشخصيات العلمية، أو من كان يشد الرحال إليها لهذه الغاية، وهذا ليس من شأنه بهذا المستوى وحده أن يعطيها من القوة والرسوخ في العلم ما يمكنها من تحقيق "الاكتفاء الذاتي" أو من التعبير عن قدرتها على منافسة الحواضر في المشرق في هذا المجال في اختيار مذاهبها الخاصة، سواء في مجال الفقه أم في مجال القراءة أم في أي مجال، ولذلك فلم يكن منتظرا منها لهذا العهد غير الاتباع التام واقتفاء الآثار، فكان أكثر جهد علمائها وقرائها الوقوف على ما هو سائد من العلوم الشرعية في الأمصار ومحاولة استيعابه ونقله بكامل الأمانة إلى بلدانهم.
طلائع الرحلات العلمية نحو المشرق:
وفي هذا المضمار يمكن تصنيف طائفة كبيرة من الرحلات العلمية التي كانت النوافذ العلمية الأولى التي فتحها الرواد على البلاد الإسلامية المشرقية، وذلك بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين أو ابتداء من أواخر هذا العهد. فلقد كان الكلف بالجديد يستهوي هؤلاء الرواد، وكان أكثر ما يستأثر باهتمامهم المجال الفقهي، إحساسا منهم بحاجة هذه المناطق بعد استتباب الأمن فيها وزيادة العمران إلى البث في كثير من القضايا العامة والطارئة وتقديم الفتاوى الشرعية للمشاكل والنوازل استنباطا من الكتاب العزيز والسنة المشرفة بعد تحصيل الوسائل وتكوين الملكات. وهكذا يمكن للمتتبع لتاريخ الحركة العلمية في المناطق المغربية أن يلاحظ أن الحافز الأكبر الذي كان يحرك الهمم في اتجاه المشرق إنما كان أحد أمرين:
- أحدهما أداء فريضة الحج والوقوف على المشاهد الإسلامية بالمدينة المنورة.
رب حظ لكظم غيظ عظيم... أظفر الظفر بالغليظ الظلوم
وحظار يظل ظل حفيظ... ظامئ الظهر في الظلام كظيم
يقظ الظن واعظ كل فظ... لفظه كاللظى شواظ جحيم
مظهر لانتظار ظعن ظهير... ناظر ذا لعظم ظهر كريم
وقد نقل أبياته هذه عدد ممن ترجموا له من شراح الشاطبية، ونشرت أخيرا ضمن الدراسات الخاصة بالظاءات في القرآن(١). وقد عني بشرحها صاحبه أبو الحسن السخاوي شرحا مختصرا ما تزال بعض نسخه محفوظة في بعض الخزائن(٢).
٦- قطعته الدالية الجوابية التي فسر فيها لغز أبي الحسن الحصري في لفظ "سوءات"(٣)
٧- متفرقات أخرى في موضوعات مختلفة، أشار إليها الفقطي بقوله: "وله أشعار مأثورة عنه في ظاءات القرآن، وفي موانع الصرف(٤) وفي نقط المصحف وخطه، وفي أنواع من المواعظ رحمه الله"(٥).

(١) - من هذه الدراسات دراسة بعنوان "كتب الضاد والظاء" عند الدارسين العرب" للدكتور محمد جبار المعيبد نشرت بمجلة معهد المخطوطات العربية بالكويت المجلد ٣٠ الجزء الثاني عدد ذي القعدة ١٤٠٦ ـ ربيع الآخر ١٤٠٧هـ ـ ومنها دراسة للدكتور طه محسن عبد الرحمن نشر المديرية العامة للمناهج وزارة التربية ببغداد ص ٦٣٥ـ٦٤٨.
(٢) - توجد منها نسخة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة برقم ٥٩ علوم القرآن ـ مجاميع (مجلة معهد المخطوطات العربية بالكويت ـ المجلد ٣٠ الجزء الثاني ص ٦٠١).
(٣) - تفقدم ذكرها في ترجمة الحصري وهي عشرة أبيات أولها قوله: "عجبت لأهل القيروان وما حدوا".
(٤) - في انباه الرواة "مواضع" بالضاد، وهو تحريف، والأبيات المذكورة أربعة ذكرها كل من السخاوي في فتح الوصيد والجعبري في كنز المعاني، وأولها قوله: "دعوا صرف جمع ليس بالفرد أشكلا وفعلان فعلى....
(٥) - انباه الرواة ٤/١٦٢.


الصفحة التالية
Icon