- وثانيهما لقاء المشيخة والاغتراف من المناهل العلمية الصافية المعتمدة.
ولقد كانت الرحلة في كثير من الأحيان تمضي على رسلها، فتتحقق للطالب المجد الغايتان معا، وتكون رحلة الحج مناسبة للإقامة بالحرمين الشريفين للتضلع من علوم الرواية، بالإضافة إلى عدول الطالب غالبا عن الطريق القاصد في الذهاب والأياب ليعرج على هذا البلد أو ذاك، وغرضه لقاء المشيخة والسماع من أكابر العلماء، وبذلك كان يجمع الغنم من طرفيه، فيعود من الرحلة الحجازية غالبا محملا بأوقار العلم والرواية.
ثم كان مما يزيد في إغراء الأقران بمثل هذه الرحلات الناجحة، أن الواحد من أهلها لا يكاد يشارف حدود بلده عائدا حتى يجد الأعناق مشرئبة والنفوس متعطشة إلى ما عنده من جديد، لاسيما فيما يخص الفقه المذهبي وقراءة القرآن الكريم، ومن هنا كان لا مناص من أن تفد على المناطق المغربية أصداء الحركة العلمية في المشرق، ثم يتطور الأمر إلى إقبال أبنائها على النهل من ينابيعها، ثم يعودون وقد امتلأت حواصلهم بما جمعوا من روايات وما نالوه من درجات في الفقه والحديث والقراءة وغير ذلك مما كان محور هذه الرحلات.
ثم ان المناطق المغربية كانت مسرحا لتعاقب مختلف المؤثرات عليها، وذلك بحكم اختلاف التبعية السياسية، فقد كانت أول الأمر تابعة في الولاية لبلاد مصر، ثم أصبحت لها إمارتها التابعة للشام ولدار الخلافة بها، إلى أن سقطت دولة بني أمية سنة ١٣٢ وانتقلت الخلافة إلى العباسيين بالعراق، فكان كل ذلك يصحب معه آثارا بليغة في التوجهات العامة والمذاهب السائدة واتجاهات الرحلة من الطرفين. وقد رأينا فيما قدمنا ولمسنا جوانب من تلك الآثار من الحجاز والشام ومصر يوم كانت افريقية ولاية شامية.
وقد ساق السخاوي في فتح الوصيد وأبو شامة في إبراز المعاني والجعبري في الكنز وغيرهم قطعا من تلك الأشعار يمكن الرجوع إليها في ترجمته بها. وسنقف معه في نهاية هذه القائمة مع ثلاث قصائد هي أهم ما خلفه من تراثه، وأحفلها بإبراز مظاهر حذقه وإمامته في الفن، وقوة عارضته في تطويع النظم لاستيعاب قضايا القراءة وعلومها، ونبتدئ الحديث عنها برائيته في العدد، وهي قصيدته المسماة:
١ـ ناظمة الزهر في عدد الآي في السور:
وهي إحدى قصائده الثلاث التي سارت بها الركبان، وإن كانت أقلها شهرة عند المتأخرين لذهاب العناية بعلم العدد، وتراجع الاهتمام بمعرفته منذ أزمان، وهي قصيدة رائية على منوال قصيدة الحصري في قراءة نافع ـ الآنفة الذكر ـ وعلى وزنها ورويها، ولم نعدها ضمن معارضاتها نظرا لاختلاف موضوعها عنها.
وعدد أبياتها مائتان وسبعة وتسعون بيتا، أما موضوعها فهو علم عدد الآي واختلاف النقلة فيه.
وقد بناها على عادته على بعض مصنفات أبي عمرو الداني وهو "كتاب البيان في عد آي القرآن"(١)، إلا أنه ذكر فيها أنه استعان بما جمعه أيضا أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي كما سيأتي في إشارة له.
وهذا عرض موجز لأهم أجزاء القصيدة ومحتوياتها:

بدأت بحمد الله ناظمة الزهر لتجني بعون الله عينا من الزهر(٢)
وعذت بربي من شرور قضائه ولذت به في السر والجهر من أمري
إلى أن يقول في بيان غرض التأليف:
واني استخرت الله ثم استعنته على جمع آي الذكر في مشرع الشعر
وأنبطت في أسراره سر عذ بها فسر محياه بمثل حيا القطر
(١) - ذكرناه في مؤلفات أبي عمرو، وقد ذكر الشيخ عبد الفتاح القاضي أنه "اختصر فيها كتاب البيان في عد آي القرآن "للإمام الداني" ـ ذكره في كتابه "الوافي في شرح الشاطبية ص٤".
(٢) - ناظمة الزهر "بضم الزاي بمعنى النجوم الزهر جمع زهراء وهي الشديدة الاشراق. والزهر في آخر البيت بفتح الزاي النور والورد المعروف.


الصفحة التالية
Icon