ولقد كانت أخبار النهضة العلمية والعمرانية التي شهدتها حواضر العراق في المائة الثانية حافزا آخر من الحوافز التي كانت تحرك الهمم إلى ارتياد هذه الأمصار والجهات، للتعرف على علمائها والتفقه على فقهائها وعقد الصلات العلمية معهم، الأمر الذي كان ربما حفز طائفة من علماء العراق أيضا على الخروج إلى افريقية لنشر العلم والمعرفة وتبادل الرواية مع من بها من العلماء، وقد استفادت المنطقة استفادة جلى من هذه الحركة سنقف على مظاهر منها من خلال استعراض طائفة من تلك الاتصالات التي ظلت مستحكمة بين افريقية والحواضر العراقية ابتداء من قيام الدولة العباسية، ومرورا بنشوء إمارة بني الأغلب في افريقية والقيروان، إلى منتصف المائة الثالثة حين بدأ الصراع الحاد بين "المدرسة المدنية" وبين "المدرسة العراقية"، وهؤلاء أهم الشخصيات التي أثرت في هذا المضمار منذ بداية الاتصال:
١- عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وقد ترجمنا لوالده في التابعين، وقد ذكروا أن المترجم أول مولود ولد في الإسلام بعد فتح افريقية، وولي القضاء لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ثم لأبي جعفر المنصور، وطال زمن ولايته، ثم استعفى، وخرج إلى العراق ولقي أكابر العلماء والمحدثين، وأخذ عنه جمهور من أهل افريقية ومصر والعراق منهم سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ) وعبد الله بن لهيعة وعبد الله بن وهب وابن غانم والبهلول بن راشد وابن حسان والصمادحي وسواهم من الأعلام(١)ومن شعره يحن إلى القيروان حين طال به المقام ببغداد قبل أن يلي القضاء من قبل المنصور:
... ذكرت القيروان فهاج شوقي... وأين القيروان من العراق
... مسيرة أشهر للعيس نصا... وللخيل المضمرة العتاق(٢)
٢- البهلول بن راشد الحجري الرعيني مولى لهم العالم الزاهد العابد

(١) - سيأتي ذكر هؤلاء الأعلام في أماكن مختلفة من هذا الفصل وغيره.
(٢) - معالم الإيمان ١/٢٣٢- ورياض النفوس ١/١٥٦ ترجمة ٦٧ وشجرة النور الزكية٦١-٦٢.

ولكنني لم أسر إلا مظاهرا بجمع "ابن عمار"(١) وجمع أبي عمرو(٢)
عسى جمعه في الله يصفو ونفعه يعم برحماه، فيشفي من الضر
على الله فيه عمدتي وتوكلي ومنه غياثي، وهو حسي مدى الدهر
ثم قال: باب علم الفواصل والاصطلاحات في الأسماء وغيرها
وليست رِؤوس الآي خافية على ذكي بها يهتم في غالب الأمر
وما هن إلا في الطوال طوالها وفي السور القصرى القصار على قدر
وكل توال في الجميع قياسه بآخر حرف أو بما قبله فادر
وجاء بحرف المد الأكثر منهما ولا فرق بين الياء والواو في السير
وها أنا بالتمثيل أرخي زمامه لعلك تمطوها ذلولا بلا وعر
كما"العالميبن" "الدين" بعد "الرحيم" "نستعين" عظيم" "يومنون" "بلا كدر"(٣)
"سجى"والضحى""ترضى""فآوى"وماولد""كبد" و"البلد""يولد"مع"الصمد" "البر"
ثم قال بعد إيراد أنواع الفواصل متحدثا عن الاصطلاح الذي سيأخذ به في الرمز:
وخذ بعلامات في الأسماء علمهم لمك بـ"حجر" والمديني بـ"القطر"
وقل فيهما "صدر" و"نحر" سواهما وخذ فيهما مع صحبة الشام بـ"الكثر"
ومك مع الكوفي "مثر" وكيفما جرين فهن القصد عن عرف أو نكر
وعد "أبي جاد" به بعد الاسم من أوائل حذ والواو تفصل في الاثر
وما قبل أخرى الذكر أو بعده لمن تركت اسمه في البضع، فأبضع بما ييري
وسميت آي العد في آي خلفهم بستتها الأولى ورتبت ما أجري
جعلت المديني أولا ثم آخرا ومك إلى شام وكوف إلى بصري
ثم بدأ في ذكر غرضه من النظم بـ"سورة أم القرآن" فقال:
(١) - المراد أحمد بن عمار المهدوي كما تقدم. وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمته.
(٢) - هو أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني الحافظ.
(٣) - هذه الامثلة من سورة الفاتحة وأول سورة البقرة لرؤوس الآي المتفق عليها.


الصفحة التالية
Icon