ومن النظر في مشيخته يتجلى مقدار اهتمامه بلقاء الأئمة المعتمدين في الرواية، ولا أستبعد أن يكون في خلال وجوده الطويل بالحجاز والعراق قد تلقى القراءة من جملة ما تلقاه، إلا أن اهتمام المؤرخين قد انصرف إلى ذكر الجانب الذي يهمهم أو الجانب الذي غلب عليه، لاسيما وهو يروي عن أبي بكر بن عياش راوية عاصم بن أبي النجود قارئ الكوفة وإمامها. وربما دل على منزلة أسد في القراءة وصية كل من مالك وابن القاسم(١)له، فقد قال له مالك ـ وهو يودعه ـ: "أوصيك بتقوى الله العظيم والقرآن ومناصحة هذه الأمة خيرا... ـ قال أسد ـ "وما ودعت ابن القاسم قط إلا وقال لي: "أوصيك بتقوى الله والقرآن ونشر العلم"(٢).
وتصف لنا قولة منسوبة إليه مدى إقبال الناس يومئذ على مذاهب أهل العراق، فقد قال عبد الرحيم الزاهد: "قلت لأسد لما قدم علينا بكتب أهل المدينة وأهل العراق: أي القولين تأمرني أتبع وأسمع منك؟ فقال لي: "إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بقول مالك، وإن أردت الدنيا فعليك بقول أهل العراق"(٣).
وقد ولي أسد القضاء بالقيروان زمانا لزيادة الله بن الأغلب(٤)، ثم ولاه على الجيش الخارج لغزو صقلية فكان فتحها على يده، وتوفي وهو محاصر سرقسطة أعظم مدنها سنة ٢١٣ هـ وقيل ٢١٤ أو ٢١٧، وقبره ومسجده بصقلية، وكان قدومه من المشرق سنة ١٨١ هـ(٥).
٦- عبد الله بن غانم الرعيني

(١) - هو عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب الإمام مالك وأحد مشاهير رواة مذهبه بمصر سيأتي في الرواة عن نافع.
(٢) - ترتيب المدارك ٣/٢٩٢-٢٩٣.
(٣) - نفسه ٣/٣٠٦.
(٤) - ولي زيادة الله افريقية سنة ثلاث أو أربع ومائتين – رياض النفوس ١/٢٥٥- وترتيب المدارك ٣/٣٠٤.
(٥) -ترتيب المدارك٣/٣٠٩ – رياض النفوس ١/٢٥٥-٢٧٣ ترجمة ١٠٤ – شجرة النور الزكية ٦٢.

في الكهف شين "لشيء" بعده ألف وقول في كل شيء ليس معتبرا
وزاد في "مائتين الكل مع "مائة" وفي "ابن" إثباتها وصفا وقل خبرا
وهكذا سار في نظمه حتى أتى على الألفات المرسومة واوا نحو "الصلوة" و"الزكوة" والموصول والمفصول، وما اختلف في رسمه بالإفراد أو الجمع وهو آخر الفصول فيها، وقد ختمها بها رسم بتاء مبسوطة من الأسماء فقال:
وذات مع يا أبت ولات حين وقل بالها "مناة" نصير عنهم نصرا
تمت عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد للرسم الذي بهرا
تسعون مع مائتين مع ثمانية أبياتها ينتظمن الدر والدررا
وما لها غير عون الله فاخرة وحمده أبدا وشكره ذكرا
ترجو بأرجاء رحماه ونعمته ونشر إفضاله وجوده وزرا
ما شان شان مراميها مسددة فقدان ناظمها في عصره عصرا
غريبة ما لها مرآة منبهة فلا يلم ناظر من بدرها سررا
فقيرة حين لم تعني مطالعة إلى طلائع للإغضاء معتذرا
كالوصل بين صلات المحسنين بها ظنا، وكالهجر بين المهجرين سرى
من عاب عيبا له عذر فلا وزر ينجيه من عزبات اللوم متئرا
وإنما هي اعمال بنيتها خذ ما صفا واحتمل بالعفو ما كدرا
وهكذا ساق ختام القصيدة(١) ثم أردف بالدعاء بالمغفرة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم الصلاة على المختار سيدنا محمد علم الهادين والسفرا
تندى عبيرا ومسكا سحبها ديما تمنى بها للمنى غاياتها شكرا
وتنثني فتعم الآل والشيع المهاجرين ومن آوى ومن نصرا
تضاحك الزهر مسرورا أسرتها معرفا عرفها الآصال والبكرا
(١) - القصيدة بتمامها في مجموع "اتحاف البررة بالمتون العشرة" من ص ٣١٧ إلى ٣٤١.


الصفحة التالية
Icon