وهذا يدل إذن على أن أكثر حلقات الإقراء في المسجد الجامع بالكوفة كانت خالصة لقراءة حمزة لا يكاد يزاحمها عليها شيء من القراءات الأخرى وهو ما يساعدنا على تمثل مدى تعرض أصحاب الرحلات العلمية إليها لسماع قراءة حمزة والرغبة في تحصيل حروفها والدخول بها عند العودة إلى المنطقة، وإن كانت كتب التراجم التي بين أيدينا لا تكاد تصرح بشيء في هذا المجال، إلا أن طبيعة الأحداث تقتضي مثل هذا التأثر والتصرف، إذ ليس بالأمر المعتاد أن يقيم طالب العلم في بلد يجد بين قراءة أهله وبين قراءته نحو الفوارق التي بين قراءة حمزة وبين قراءة غيره دون أن يحفزه ذلك على محاولة رصد هذا الخلاف ورواية أصوله وحروفه. وبهذا نقول بكل اطمئنان عن تعرف افريقية والمناطق التابعة لها على قراءة حمزة وتمكنها فيها واحتوائها على جمهرة القارئين وهيمنتها على المتعلمين تبعا لذلك، على نحو ما تم لها ذلك في مصرها، وبين أيدينا من كتب التراجم إشارة واحدة نعتبرها كافية في هذا الصدد لأهميتها، وهي إشارة جاءت عند الإمام ابن الفرضي في سياق حديثه عن أحد أعلام القراء الأندلسيين الذين دخلوا بقراءة نافع إلى افريقية، وهو محمد بن خيرون المقرئ، فقد ذكر أنه "قدم بقراءة نافع على أهل افريقية، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة.."(١).
ومصدر غلبة هذه القراءة في هذا الطور إذن واضح، ويمكن إجماله في جملة أمور:
أ ـ كثرة الرحلات العلمية إلى العراق.
ب ـ تبني الدولة الأغلبية بافريقية لمذهب أبي حنيفة في الفقه تبعا لدار الخلافة ببغداد.
ج ـ أثر بعض الشخصيات التي وليت القضاء في نشر مذاهب الكوفيين ومن أهمها أسد بن الفرات.
د ـ دخول جماعة من علماء الكوفة إلى افريقية وتولي بعضهم مراكز مهمة كالقضاء وغيره من شؤون الدولة.
وقد اعتمد هذا الشرح عامة شراح العقيلة منذ ظهوره، ومن أقدم من اعتمده من المغاربة أبو عبد الله الخراز صاحب "مورد الظمآن (ت ٧١٨)، وقد أشار شارح قصيدته "مورد الظمآن" أبو محمد بن أجطا إليه في أول شرحه حيث ذكر كتاب "المقنع" لأبي عمرو الداني وقال: "سمعت الناظم رحمه الله مرارا يقول انهما مقنعان لأبي عمرو ـ رحمه الله ـ أحدهما أعظم جرما من الآخر، وأظن هذا الذي في أيدي الناس هو الكبير... وكان رحمه الله يذكر لنا ذلك ويقوله في مواضع من "العقيلة" في وقت إقرائه ـ رحمه الله ـ لأن أبا الحسن السخاوي ـ رحمه الله ـ يقول في عدد من أبياتها: "هذا من زيادة العقيلة على ما في المقنع"، وهو في المقنع مذكور، فكان يعتذر للسخاوي بذلك ويقول: لعله لم يطالع إلا المقنع الصغير"(١).
٢- شرح العقيلة للشيخ أبي بكر بن عبد الغني اللبيب المعروف بـ"الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة"
يعتبر هذا الشرح من أهم شروحها المعروفة إن لم يكن أهمها، كما يعتبر أوسعها مادة وأوفرها نقولا عن المصادر وعلى الأخص المصادر المغربية المفقودة، وقد وقفت على عدد وافر من نسخه في الخزائن العامة والخاصة(٢).
ومؤلفه الشيخ أبو بكر بن أبي محمد عبد الغني الشهير باللبيب(٣)، وهو "من أبناء تونس وبها قرأ على جماعة، منهم الحاج يوسف القادسي الأندلسي، والشيخ أبو محمد اللقي، وبرع في العربية وعلوم القرآن".
(٢) - توجد منه نسختان بالخزانة العامة بالرباط برقم ٣٩٩ق ــ٢٢٢٦د وبالخزانة الحسنية نسخة برقم ٣٨٩٣.
(٣) - هذا هو المعتمد في اسمه ونسبه ويظهر أن اسمه أبو بكر وأما أبو محمد فكنية أبيه، وقد رأيت في بعض النسخ "لأبي بكر بن أبي محمد عبد الله"، وفي بعضها" لأبي محمد عبد الغني، وما أثبتناه هو الأكثر والموجود في النسخ العتيقة.