فقد لاحظت أنه قد كتبت في الجانب المذهبي والفقهي البحوث والمؤلفات، وعقدت له اللقاءات والندوات، وسجلت في رصد بعض قضاياه ودراستها الرسائل الجامعية العديدة، بينما كان التقصير باديا بالنسبة لقراءة نافع عند أهل هذه المنطقة مع أنهما كانا معا جنبا إلى جنب القناتين العظيمتين اللتين تدفق منهما عطاء المدرسة المغربية، وتبلور من خلالهما إسهامها الثري في المجالين القرائي والفقهي على السواء.
ولهذا السبب كنت وأنا أتلمس الطريق في اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه أستشعر مقدار الحاجة إلى بحث واف يستكشف جوانب هذه المدرسة، ويتوجه على وجه الخصوص إلى إبراز أثر هذه القراءة في تحديد المسار الذي سارت فيه المدرسة في سعيها نحو إثبات الذات، والانعتاق من التبعية لغيرها، لا في الجانب الفكري والمذهبي فقط كما اعتادت الأبحاث والدراسات المذكورة أن تقف عنده، وإنما في الجانب القرائي أيضا، وذلك لما ستلاحظه من قدرة "المدرسة المغربية" في القراءة على امتلاك نموذجها الخاص وطرازها المتميز في التلاوة والأداء وغيرهما، وأن تعمل من جهة ثانية على مقاومة التأثيرات السلبية التي كانت لا تزال تفد عليها مع رواد الرحلة العلمية حتى استطاعت على عهد "الأقطاب" في أواخر المائة الرابعة ـ كما سنرى ـ أن تظهر في الميدان بطرازها المغربي القح الكامل متمثلا في نوعية خطها في الكتابة، وترتيب الحروف الهجائية والأوضاع المعتمدة في الرسم والنقط والضبط، والألوان المستعملة في نقط المصحف، والرموز التي يشار بها إلى الحركات والسكنات وعلامات التشديد والتخفيف والهمز وغير ذلك، بالإضافة إلى اعتمادها على رواية خاصة من طريق خاصة من اختيارات خاصة ظلت تجري عليها ما شاءت من التحقيق حتى انتهت منها إلى ما استقرت عليه في التلاوة والأداء.
وعلى العموم فقد نال الحصري في عاصمة افريقية منزلة الأفذاذ من العلماء، وأمسى مؤهلا لاقتعاد مجالس كبار المشيخة في أكثر من فن، وعلى الخصوص في فن القراءات الذي يظهر أنه كان قد حقق فيه مستوى الإمامة وحصل على مستوى قل من بلغ إليه من أقرانه من طلاب هذا الشأن بالقيروان، ولعله كان يتهيأ ليحل محل المشايخ الكبار في عاصمة البلاد، إلا أن الرياح تجري بقضاء الله بما لا تشتهي السفن، فلم يجد بدا من الهجرة عن المنطقة والضرب في أرجاء المغرب والأندلس انتجاعا للأمن وطلبا للاستقرار.
ظروف هجرته ونزوحه عن افريقية ومجالات تحركه ونشاطه الأدبي والعلمي
لا يحتفظ التاريخ العلمي والأدبي لأبي الحسن الحصري في هذا الطور من حياته الحافلة بالكثير من التفاصيل، فالمعلومات عنه شحيحة جدا، إذ لا نجد اهتماما في المصادر بذكر تقلبات الأحوال به أثناء النكبة الهلالية العظمى التي كانت بالنسبة لعاصمة أفريقية شبيهة بالفتنة البربرية قبلها في عاصمة الأندلس في نتائجها الخطيرة على الأقل، إذ كانت فاجعة القيروان قاصمة الظهر التي لم تقم لها بعدها قائمة.
وقد أجمعت المصادر التي تعرضت لنزوحه عن القيروان على أنه غادرها واتجه نحو الأندلس بعد سنة ٤٥٠(١)، إلا أنها لا تضع بين أيدينا ما يشفي في تتبع حركاته لأول حلوله بها، فلا ندري إلى أي جهة توجه أولا؟ وفي كنف من من ملوك الطوائف يومئذ نزل؟ وإن كان الظاهر أنه توجه إلى أقرب أفق إلى القيروان من الأندلس وهو الجانب الشرقي حيث امارة أبي الحسن علي بن مجاهد العامري، ولكنه ربما كان مروره به مرورا عابرا، وربما تخطى امارات كثيرة في شرق الأندلس في اتجاه الغرب أو في اتجاه المغرب كما سنرى.
وقد درج عامة من تحدثوا عن دخوله الأندلس على ربط الصلة بين هذا الدخول وبين عمله شاعرا متكسبا بشعره.

(١) - جذوة المقتبس ٣١٤ ترجمة ٧١٦ والذخيرة ٤/ القسم الأول/ ١٩٢ وبغية الوعاة ٢/١٧٦.


الصفحة التالية
Icon