ولقد كان لي قبل أن يستقر بي الاختيار على "قراءة نافع عند المغاربة" هوى خاص في يعسوب هذه المدرسة وواضع تصميمها في هيكلها العام الشيخ الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني صاحب الاختيارات التي أخذ بها المغاربة في الرسم والضبط وسائر علوم القراءة والأداء، وكنت أريد أن أجعل دراسة شخصيته من هذه الناحية موضوعا لأطروحتي، إلا أنى عندما عرضت هذا الاقتراح على السيد مدير دار الحديث وناقشه معي تفضل فاقترح علي أن أتوجه إلى دراسة هذا الأثر الذي لأبي عمرو الداني وغيره في المدرسة المغربية بصورة أوسع توفر للدراسة آفاقا أرحب وأفسح، وكان اقتراحه أن يكون العنوان كما أثبته في أول البحث: "قراءة الإمام نافع عند المغاربة"، فتلقيت اقتراحه بالقبول، فلما عرضت هذا الاقتراح على أستاذي المشرف لينظر فيه قابله بالاستحسان والارتياح، إذ كان الموضوع ما يزال بكرا لم يوفه أحد بعد ما يستحقه من الدراسة.
وأقبلت على الإعداد للموضوع الجديد، وقد خيل إلي أن الأمر لا يزيد على تغيير في العنوان، لا في الجوهر، فلما بدأت أعالج جوانب الموضوع تفتحت علي منه أبواب وشعب ما كانت يومئذ في الحسبان، وبدا لي الدرب طويلا عريضا يقع أبو عمرو الداني منه في منعرج كبير وخطير، ولكنه ليس المنعرج الوحيد، بل قبله وبإزائه وبعده مهامه فيح تحار فيهن القطا أو كما قيل:

"تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد".
وقطعت في الإعداد والكتابة بضع سنين أتقدم بالدراسة والبحث صاعدا مع الزمن أريد أن لا تفوتني حقبة ولا ناحية من نواحي المغرب الكبير دون أن أعرج عليها وأتحدث عن مستوى القراءة فيها من خلال الترجمة لقرائها والتركيز على الرحلات العلمية المنطلقة منها، حتى اتسع بي المجال، وتراحبت الجوانب والآفاق.
فيقول الحميدي في الجذوة متحدثا عنه: "شاعر أديب رخيم الشعر، حديد الهجو، دخل الأندلس وانتجع ملوكها، وشعره كثير، وأدبه موفور"(١).
ويربطه ابن بسام أيضا في "الذخيرة" بمثل ذلك فيقول: "وكان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك الطوائف تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار بالأنس المقيم"(٢).
وتصل بعض الروايات الأدبية بين خروجه من القيروان وبين استدعاء بعث به إليه أمير أشبيلية المعتمد ابن عباد، وإن كانت تصوره زاهدا أو كالزاهد في هذه الوفادة، بل عازفا عنها وساخرا أيضا من الأمير.
ومؤدى هذه الرواية أن المعتمد "بعث إلى أبي العرب االصقلي(٣) خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهز بها ويتوجه إليه، وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان، فكتب أبو العرب :
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى واعجب لأسود عيني كيف لم يشب
البحر للروم لا يجري السفين به إلا على غرر، والبر للعرب(٤)
وكتب له الحصري :
أمرتني بركوب البحر أقطعه غيري لك الخير فأخصصه بذا الراء
ما أنت نوح فتنجيني سفينته ولا المسيح أنا أمشي على الماء(٥)
(١) - جذوة المقتبس ٣١٤ ترجمة ٧١٦.
(٢) - الذخيرة ٤/١/١٩٢.
(٣) - هو أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات بن مصعب بن زرارة القرشي العبدري الصقلي، كان حافظا للغات والآداب شاعرا مفلقا حظي عند ابن عباد حظوة عظيمة مات سنة ٥٠٦ هـ (التكملة لابن الأبار : ٢/١٨٩، رقم الترجمة، ٤٩٤).
(٤) - يريد استيلاء النورمنديين من الروم على البحر واستيلاء الهلاليين على بر افريقية.
(٥) - القصة في وفيات الأعيان ٣/٣٣٤.


الصفحة التالية
Icon