ولم أجد عندها بدا من إعادة النظر في الحقبة التاريخية التي يتناولها البحث، فعدت إلى أستاذي المشرف وإدارة الدار أستأذن في تقليص هذه الحقبة لأقف بالمعالجة في حدود مشارف المائة العاشرة من الهجرة على أن أعمل على إدراج القرون الباقية ضمن امتدادات آخر مدرسة معتبرة أقف بالبحث عندها لأن إشعاعها العلمي ـ كما تبين لي ـ قد انتظم سائر الآفاق في الجهات التي تنتشر فيها قراءة نافع من رواية ورش في الأقطار المغربية، فكانت الموافقة على ذلك حافزا جديدا على التركيز على الجوانب المهمة من الموضوع ومحاولة إيفائها ما تستحقه.
وأحسب أني بعملي هذا قد سددت بعض الفراغ، فجمعت أشتات المادة، ورسمت المسار العام الذي سارت فيه المدرسة المغربية في القراءة، وعرفت تعريفا كافيا بأقطابها وأئمتها ومشايخ الإقراء بها ممن كان لهم مذهب في القراءة ورسمها وضبطها وأصولها وقواعد تجويدها وأدائها، أو كان لهم مؤلفات أو منظومات أسهمت في تيسير هذه العلوم وكان لها صدى عند القراء والمتعلمين.
وكنت حريصا على أن أضع مواد البناء قبل الشروع في العمل، فاقتضى مني ذلك بضعة أعوام، أجمع الجذاذات وأسجل في المذكرات، وأقرأ في كتب التراجم والرحلات وبرامج العلماء وفهارس المخطوطات، وأقوم بجولات واسعة في المكتبة التاريخية والأدبية وكتب الطبقات المختلفة وفي بعضها المطولات التي تقع في مجلدات، وأضم ذلك كله إلى ما تجمع عندي من أراجيز ومنظومات وأسانيد وإجازات وغيرها مما أمست معه المواد الأولية جاهزة على كثرتها ووفرتها وتنوعها.
ثم أخذت أعيد النظر في التصميم الأولي الذي كنت وضعته للبحث غداة اقتراحه وتسجيله متبعا في بنائه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه "المنهج التاريخي"، ومراوحا بينه من حين إلى آخر وبين "المنهج الاستقرائي" وذلك حسب ما تمليه طبيعة البحث في جوانب الموضوع.
والقارئ العجلان ربما اطمأن إلى الحكاية وأعجبته من خلالها عزة النفس واستشعار خطورة السفر عند كل من أبي العرب وأبي الحسن، وربما تمثل الشاعر الحصري ما يزال إلى زمن المعتمد الذي ولي الإمارة بعد موت أبيه في جمادي الآخرة سنة ٤٦٤(١) رافضا التعرض لهذا الخطر المذكور في البيتين، وهو أمر غير وارد ولا واقع في نظري لأنه يقتضي تأخر وفادة الحصري على المعتمد إلى عهد ولايته، وهذا أمر نجد ما يرده من رواية الحصري نفسه إذ يقول فيما نقله كل من صاحب الذخيرة والمطرب:
"دخلت على السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن المعتضد بالله حين مات أبوه فأنشدته ارتجالا:
مات عباد ولكن... بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي... غير أن الضاد ميم(٢)
فهذا الخبر يفيد أن الحصري كان بحضرة اشبيلة أو قريبا منها على الأقل عند وفاة المعتضد.
ويقوي هذا ويدحض ارتباط وفادة الحصري بالبيتين الآنفي الذكر ورود القصة نفسها عند أبي الطاهر السلفي في "معجم السفر" وغيره مسندة، وفيها أن ابن الأغلب صاحب ميورقة كتب إلى ابن رشيق القيرواني(٣) يستدعيه في البحر، فأجابه بهذين البيتين، وذكرهما مع بعض الاختلاف في اللفظ(٤).
وذكر ابن دحية في "المطرب" نحوا من ذلك(٥) وذكرهما أيضا لابن رشيق جامع ديوانه(٦).

(١) - البيان المغرب لابن عذاري ٣/٢٠٤ ـ والمعجب ١٤٩.
(٢) - المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية ١٣-ـ١٤.
(٣) - هو أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني المتوفى بمازرين من صقلية (٣٩٠ـ٤٥٦) وهو صاحب العمدة والأنموذج وقراضة الذهب في نقد أشعار العرب وغير ذلك ـ ترجمته في انباه الرواة ١/٣٣٣ـ٣٣٩ ترجمة ١٩١.
(٤) - كتاب "أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر" ٩٨ تحقيق إحسان عباس الطبعة ١ السنة ١٩٦٣.
(٥) - المطرب ٦٥.
(٦) - ديوان ابن رشيق ٢٤.


الصفحة التالية
Icon