ومعنى هذا أن الاختيارات الكثيرة التي كانت تروى عن الأئمة وتنسب إليهم ويأخذ بها أصحابهم قد أخذت تضمر وتقل منذ أواخر المائة الثالثة لتفسح المجال في كل مصر للقراءة الرسمية التي أمست قراءة الجماعة به، وأمست تستأثر بالنشاط العام في القراءة والإقراء والتعليم والتأليف والتلاوة وغير ذلك.
لقد كان من السهل على كل مصر أن يستقر على قراءته الجامعة هذه نظرا لسعة جمهور الآخذين لتلك القراءة عن إمامها أو عن جمهور أصحابه، أما بالنسبة للجهات التابعة لتلك الأمصار فقد بقيت فيها الروايات التي دخلتها وانتشرت فيها، وهكذا انتشرت قراءة نافع من رواية ورش مثلا في مصر، ومن رواية الغازي بن قيس في الأندلس، ومن روايات متعددة في افريقية والقيروان بحسب من دخل بها رواية عنه أو عن بعض أصحابه ـ كما سيأتي ـ، وظلت قراءة حمزة أيضا مستأثرة بالسواد الأعظم من القراء ـ كما تقدم ـ قبل أن تزحزحها عن مكانتها قراءة نافع بعد الصراع المذهبي المرير الذي مرت منه المنطقة قبل أن تستقر في القراءة والمذهب الفقهي والاتجاه الفكري على قاعدة جامعة كما سنقف عليه بحول الله في آخر الباب.
ولا أريد أن أتطرق إلى الحديث عن هذا الطور بالنسبة لافريقية وما يتبعها من الجهات المغربية قبل أن نتعرف على المسار الذي سارت فيه القراءة في البلاد الأندلسية خلال المدة التي حصرنا حديثنا فيها، وهي المدة التي تبتدئ من زمن فتحها في آخر المائة الأولى، وتمتد إلى أواسط المائة الثالثة، وهو الوقت الذي اكتمل فيه توحيد القراءة بها واعتماد قراءة نافع المدني قراءة رسمية، وسوف نقف في الفصل الآتي بعون الله على هذا المسار وتلك الأسباب والعوامل التي ساعدت على ذلك لنتجه بالبحث إلى غايته في التعريف بالإمام نافع وقراءته ورواياتها وجهود المغاربة في خدمتها واعتمادها والقيام عليها إلى اليوم.
الفصل الثالث :
دخول قراءة نافع إلى الأندلس وافريقية وروادها
ولسنا نجازف إذا قلنا ان شهرة الشاطبي في المشرق والمغرب تقوم عليها، وقد استطاع من خلالها أن يبسط سلطانه في ميدان القراءات السبع شرقا وغربا، وأن يستحوذ بها على المقام الأول بين علماء هذا الشان، بعد استقرار المذاهب وتأصيل القواعد والاصول، كما أنه استطاع أن يمكن في ساحة الإقراء للمدرسة الأثرية لا في المشرق حيث استقر وحده، بل في المغرب أيضا، وأن يحقق لها وجودا متواصلا منقطع النظير سوف نرى بعد الفراغ من تقديمها مظاهر استحكامه واستمراره وقوته.
قيمتها التعليمية:
وإن إبراز ما ينبغي التنبيه عليه في شأن قصيدة الشاطبي هي هذه القيمة التعليمية الرفيعة القدر التي استطاع أن يكفلها لها بما أوتي من حذق وبراعة في النظم وإحاطة وخبرة بهذا العلم.
وقد توخى فيها من حيث الموضوع عرض المشهور والسائر المقروء به من الروايات والطرق عن القراء السبعة أئمة الامصار الخمسة، وتحديد مظاهر الاختلاف بينهم في القراءة وأصول الاداء، ولذلك جعل كتاب "التيسير في القراءات السبع" للحافظ أبي عمرو الداني مصدره الأساسي فيها ومحوره الذي أدار القواعد والاحكام عليه فنظم مادته في الجملة، وأضاف إليها لتمام الفائدة إضافات مفيدة في مواضع وأبواب من القصيدة أحوجت الرغبة في التحقيق والبيان إلى ذكرها، فجاءت قصيدته مستوعبة كأصلها للمشهور والسائر المستفيض في القراءة عن السبعة من أشهر الطرق التي ضمنها أبو عمرو كتابه المذكور، كما قرأ بها الشاطبي على أصحاب أصحاب أبي عمرو متشبعا بمقومات مدرسته، ومؤسسا على قواعدها واختياراتها.