وسيكون حديثنا عن البلاد الأندلسية أولا حتى نلم بمثل ما ألممنا به من تطورات عرفها ميدان الاقراء فيما تحدثنا عنه من جهات، وغرضنا أن نراعي السياق التاريخي الذي سلكته القراءة المدنية في اتجاه المناطق المغربية، لأننا سنلاحظ تحقيق البلاد الأندلسية لنوع من السبق في مجال استقبال قراءة نافع من جهة، ثم في مجال السعي إلى ترسيمها واعتمادها وحدها قراءة رسمية جامعة، ولهذا نرى من الضروري لكي نضع هذه القراءة في إطارها التاريخي في هذه المنطقة، أن نمهد لذلك بالحديث عن التطور الذي عرفه ميدان الاقراء فيها قبل أن تأخذ قراءة نافع طريقها إلى الصدارة في مدارسها التأسيسية، وأن تستأثر بالمقام الأول هنالك، ثم نثني بعده بالحديث عن رواد القراءة المدنية في الأندلس وافريقية محاولين من خلال استعراضهم أن نتبين معالم النقلة الكبيرة التي تحققت من خلالها تلك الوحدة المذهبية الشاملة التي ظلت هذه المناطق تسعى إليها ردحا كبيرا من الزمن، وتتحسس الطريق إليها من خلال الأحداث إلى أن استوفت مقوماتها واستكملت عناصرها وآساسها.
لقد كانت الأندلس على موعد مع الطلائع الأولى من القراء في ركاب الفتح الإسلامي، وكان القراء من الصحابة والتابعين كما رأينا في المصاف الأولى من جميع حركات الجهاد، ولم يحتج الفاتحون للبلاد الأندلسية لمثل ما احتاجوا إليه في افريقية من زمن في تمهيد البلاد وترسيخ أقدام الإسلام فيها، ولذلك فقد تأتى لهم بسهولة إقامة المؤسسات الدينية ونهوضها برسالتها في التوجيه والتعليم والقيادة، ولا شك أن طائفة من "الأطر" التعليمية التي اعتدنا أن نراها مرافقة لحملات الجهاد ما لبثت أن أخذت تباشر مهماتها في توطيد ركائز الإسلام وذلك بإقامة المساجد وعمارتها وتلقين القرآن وإقرائه وإنشاء المكاتب لتعليمه للناشئة، وتوفير المصاحف المساعدة ونحو ذلك مما يساعد على قيام حركة تعليمية رأينا صورا منها عرضناه في الفصل الأول من هذا الباب.
ثم زاد على ذلك فأشار بباقي الحروف إلى ما توافق فيه بعض الأئمة، فرمز بالثاء المثلثة لاتفاق الثلاثة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي، ورمز بالخاء لاتفاق الستة المذكورين بعد نافع، والذال المعجمة لاتفاق الكوفيين والشامي، والظاء المشالة لاتفاق الكوفيين والمكي، والغين لاتفاقهم مع البصري، والشين لما اتفق فيه حمزة والكسائي(١).
ثم ركب رموزا أخرى هي عبارة عن كلمات مثل "صحبة" للكسائي وحمزة وشعبة بن عياش أحد راويي قراءة عاصم، و"صحاب" لحمزة والكسائي وحفص الراوي الثاني عن عاصم، و"عم" فيما اتفق فيه نافع والشامي و"سما" فيما اتفق فيه مع البصري، و"حق" لما توافق فيه المكي والبصري، و"نفر" لما توافق فيه المكي والبصري والشامي و"حرمي" لما توافق فيه نافع والمكي، و"حصن" لما توافق فيه نافع والكوفيون الثلاثة.
هذه هي رموزه التي أدار مسائل الخلاف عليها في "حرز الأماني" ببراعة بديعة زواج فيها بين صحة معاني الأبيات وأداء الرموز لوظيفتها في البيان.

(١) - رأيت عند عدد من مشايخ القراءة هذا النظم الذي فيه بيان اصطلاح الشاطبي في الحرز، وعليه يعتمدون في تقسيمه في ألواح الطلبة وهو للشيخ يعقوب بن بدران، وهو من شراح الحرز كما سيأتي. وهذه أبياته:
... وهاك بيان الرمز عن سبعة أتت...... على الوزن وهو الفرد فاحفظ ليسهلا
... "أبج" ألف عن نافع ثم باؤها... لقالون ثم الجيم ورش به انجلى
... "دهز" دال مك ثم هاء لأحمد... وحيث أتاك الزاي فاجعله قنبلا
... "حطي" فحرف الحاء بصر وطاؤها... لدوريهم واليا لصالح أقبلا
... "كلم" كاف للشامي ولام هشامهم... أتى وابن ذكوان له الميم مثلا
... "نصع" نونها عن عاصم ثم صادها... لشعبة ثم العين حفص تقبلا
... "فضق" فاؤها عن حمزة ثم ضادها... لها خلف والقاف خلاد اعقلا
... "رست" راعي ثم سين لليثهم... وتا حفص الدوري وفي الذكر قد خلا


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
وناظمها يرجو نجاة ورحمة من الله يعقوب بن بدران ذي العلا