ولقد عملت الخلافة في المشرق بعد الفتح على تشجيع الهجرة إلى هذه المناطق بأعداد كثيفة أحيانا وذلك لتضمن استمرار الولاء لها من جهة، ولتحقق التوازن المطلوب بين العناصر المحلية والعناصر العربية والافريقية التي عبرت المجاز أثناء الفتح وبعده، وكان لهذه الأفواج الوافدة عليها آثار واضحة في ترسيخ الاهتمام بالتعليم والتوجيه وإنشاء المؤسسات التعليمية لذلك، وآثار أخرى في تحديد المسارات القوية التي تمارس التأثير على الأحداث، ومن ثم لا بد لمن يريد التاريخ لتطور القراءة في البلاد لهذا العهد، أن يحاول معرفة أهم العناصر القوية التي كانت بأيديها مقاليد الأمور، بما في ذلك التأثير على الاتجاه العلمي وقيادته على نحو من الأنحاء ليساير التوجهات العامة في البلاد. ولا شك أن أول ملاحظة يمكن أن يلاحظها المتتبع لتاريخ الأندلس منذ أول الفتح وخلال عصر الولاة الذي امتد إلى أواخر العقد الرابع من المائة الثانية، هي التبعية لما هو سائد في بلاد الشام، وهيمنة العناصر الشامية على الحياة، وذلك أمر طبيعي لما نعلمه من تبعية سياسية لهذه المناطق للخلافة بالشام، لأن فتحها كان على أيديهم، ولذلك لم يكد ينتهي الفتح حتى امتلأت الأندلس بالشاميين، ثم توالت الهجرة إليها في ركاب الولاة، فدخلتها جماعات كثيرة تعرض المؤرخون لذكر عديد منها، فقد دخلها جيش من العرب في خلافة عبد العزيز مع واليه عليها السمح بن مالك الخولاني سنة ١٠٠ هـ(١)، ودخلها في ولاية عبد الملك بن قطن سنة ١٢٢ هـ "نحو عشرة آلاف من عرب الشام، معززين لعرب الأندلس ضد البربر الذين كانوا بشذونة يتزعمهم رجل زناتي"(٢).
(٢) - البيان المغرب ٢/٣١.
وقد نهج فيها نهج صاحب التيسير في نقسيم المباحث إلى قسمين: قسم الأصول، وقسم الفرش، وزاد عليه بباب عقده في ختامها هو "باب مخارج الحروف وصفاتها".
أما عدد أبياتها فقد تولى بيانه في آخرها، وهو ١١٧٣، بقطع النظر عن بعض ما انفرد به بعض أصحابه عنه كما سيأتي في ترجمة محمد بن عمر القرطبي، وكذلك ما استدركه بعض الأئمة عليه كما سيأتي بعون الله.
ونظرا لوفرة القصيدة في أيدي القراء حتى لا يكاد يخلو بيت قارئ معتبر منها فإني سأكتفي من عرضها ببعض المقاطع يقول رحمه الله في أولها:
بدأت ببسم الله في النظم أولا | تبارك رحمانا رحيما وموئلا |
وثنيت صلى الله ربي على الرضا | محمد المهدى إلى الناس مرسلا |
وعترته ثم الصحابة ثم من | تلاهم على الإحسان بالخير وبلا |
جزى الله بالخيرات عنا أئمة | لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا |
فمنهم بدور سبعة قد توسطت | سماء العلا والعدل زهرا وكملا |
لها شهب عنها استنارت فنورت | سواد الدجى حتى تفرق وانجلى |
وسوف تراهم واحدا بعد واحد | مع اثنين من أصحابه متمثلا |
تخيرهم نقادهم كل بارع | وليس على قرآنه متاكلا |
لهم طرق يهدى بها كل طارق | ولا طارق يخشى بها متمحلا |
وهن اللواتي للمواتي نصبتها | مناصب فانصب في نصابك مفضلا |
وها أنذا أسعى لعل حروفهم | يطوع بها نظم القوافي مسهلا |
جعلت "أبا جاد" على كل قارئ | دليلا على المنظوم أول أولا |
ومن بعد ذكري الحرف أسمي رجاله | متى تنقضي آتيك بالواو فيصّلا |
أهلت فلبتها المعاني لبابها | وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا |
وفي يسرها "التيسير" رمت اختصاره | فأجنت بعون الله منه مؤملا |
وألفاظها زادت بنشر فوائد | فلفت حياء وجهها أن تفضلا |
وسميتها "حرز الاماني" تيمنا | و"وجه التهاني" فاهنه متقبلا |