ثم بلغ الأمر مداه الأقصى في هيمنة العناصر الشامية على الجهات الأندلسية بقيام امارة بني أمية بها بوصول "صقر قريش" عبد الرحمن الداخل إليها، مفلتا من قبضة العباسيين، وطامحا إلى تجديد ما تداعى من ملك أسلافه في المشرق، ومحاولا استثمار ما كان قد بقي بالأندلس من مظاهر الولاء لهم، لإقامة امارة فتية تضع حدا للصراع على النفوذ بالبلاد الأندلسية، وتوحدها تحت راية واحدة تمهيدا لبسط سلطانها وتوسيع مدى حكمها ليشمل ما وراء المجاز من العدوة المغربية في أيام قوتها وعزها، الأمر الذي أصبحت معه قرطبة تنافس دمشق منذ أن دخلها يعسوب الأمويين سنة ١٣٨ هـ، ثم ظلت تنافس بغداد في عصر ازدهارها بهجة وعظمة وعمرانا لأزيد من ثلاثة قرون.
العناصر الشامية وغلبتها على الأندلس:
والذي يهمنا من سوق هذه الأحداث ههنا هو إبراز تفوق العناصر الشامية من حيث العدد والنفوذ على غيرها من العناصر، الأمر الذي يستتبع آثاره في تغلب الطابع الشامي بها في جميع المجالات بما في ذلك من قراءة وفقه وتوجيه وتعليم، ولذلك انتشر عندهم في الفتيا والقضاء مذهب أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت ١٥٧ هـ) "أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وحفظا وفضلا وعبادة وضبطا مع زهادة"(١)، وقد ساد مذهبه في الأندلس بلا مزاحم في وقت مبكر مع الطلائع الشامية، حتى ان المقري عبر عن ذلك بمثل هذه العبارة دون أن يلقي لها بالا(٢)فقال: "واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح"(٣).

(١) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ١٨٠ ترجمة ١٤٢٥.
(٢) - وذلك لأن الأندلس فتحت ما بين سنتي ٩١-٩٢ وميلاد الأوزاعي سنة ٨٠ هـ، فقوله "لأول الفتح" لا يناسب سن الأوزاعي عند فتحها.
(٣) - نفح الطيب للمقري ٢/١٨٥.

وقال في آخر فرش الحروف:
و"صحبة" الضمين في عمد وعوا لايلاف باليا غير شاميهم تلا
وإيلاف كل وهو في الخط ساقط ولي دين قل في الكافرين تحصلا
وهاء أبي لهب بالإسكان (د)ونوا وحمالة المرفوع بالنصب (نـ)ــزلا
ثم ذكر باب التكبير، وختم بباب مخارج الحروف وصفاتها إلى أن أتى على قوله فيها:
وقد وفق الله الكريم بمنه لإكمالها حسناء ميمونة الجلا
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ومع مائة سبعين زهرا وكملا
وقد كسيت منها المعاني عناية كما عريت عن كل عوراء مفصلا
وتمت بحمد الله في الخلق سهلة منزهة عن منطق الهجر مقولا
ولكنها تبغي من الناس كفؤها أخا ثقة يعفو ويغضي تجملا
وليس لها إلا ذنوب وليها فيا طيب الانفاس احسن تأولا
وقل رحم الرحمن حيا وميتا فتى كان للإنصاف والحلم معقلا
عسى الله يدني سعيه بجوازه وإن كان زيفا غير خاف مزللا
فيا خير غفار ويا خير راحم ويا خير مأمول جدا وتفضلا
أقل عثرتي وانفع بها وبقصدها حنانيك يا الله يا رافع العلا
ثم ختم بقوله:
وآخر دعوانا بتوفيق ربنا أن الحمد لله الذي وحده علا
وبعد صلاة الله ثم سلامه على سيد الخلق الرضا متنخلا
محمد المختار للمجد كعبة صلاة تباري الريح مسكا ومندلا
وتبدي على أصحابه نفحاتها بغير تناه زرنبا وقرنفلا(١)
نظمكه لها وما صاحبه من تحريات:
كانت فكرة هذا النظم قد اختمرت عند الإمام الشاطبي وهو ما يزال في بلاد الاندلس، كما نقل ذلك الحافظ ابن الجزري عن أبي عبد الله بن رشيد الفهري السبتي ـ صاحب الرحلة الآنف الذكر ـ فقد نقل عنه في سياق حديثه عن ترجمته قوله: "ورحل فاستوطن قاهرة مصر، وأقرأ بها القرآن، وبها ألف قصيدته ـ يعني الشاطبية ـ وذكر انه ابتدا أولها بالأندلس إلى قوله: "جعلت أبا جاد"(٢) ثم أكملها بالقاهرة"(٣).
(١) - إتحاف البررة : ١١١.
(٢) - يعني إلى البيت الخامس والأربعين منها.
(٣) - غاية النهاية ٢/٢٢ ترجمة ٢٦٠٠.


الصفحة التالية
Icon