ومعلوم أن قوله "كانوا على مذهب الأوزاعي وأهل الشام" يتضمن الإشارة إلى اقتداء أهل الأندلس بأهل الشام في مذهبهم في القراءة أيضا، فإذا كان وجودهم المكثف قد استطاع أن يجعلها في المجال الفقهي أوزاعية، فمن باب أولى سيجعل قراءتها على وفاق ما هو سائد في القراءة عندهم، ولا شك أن القراءة الشامية كانت يومئذ قد انضبطت على قراءة إمامها عبد الله بن عامر "فقد كان الناس بدمشق وسائر بلاد الشام حتى الجزيرة الفراتية وأعمالها لا يأخذون إلا بقراءة ابن عامر، وما زال الأمر كذلك إلى حدود الخمسمائة"(١). ومعنى هذا أن الذين دخلوا بالفقه على مذهب الأوزاعي كانوا في الوقت ذاته يحملون قراءته أو قراءة ابن عامر أو غيره من قراء مدرسته كيحيى بن الحارث الذماري أو غيره ممن تقدم ذكره في النص الذي اقتبسناه عن أبي عبيد في الفصل الماضي.
ومن الطريف أن يكون أبو عمرو الأوزاعي أحد الثلاثة الذين رووا القراءة عن مالك بن أنس، إذ يذكر ابن الجزري في ترجمة مالك أنه "روى القراءة عنه أبو عمرو الأوزاعي ويحيى بن سعيد(٢)والحلواني(٣)"(٤).
رواد من فقهاء المنطقة وقرائها وصلتهم بالمذاهب الشامية في الفقه والقراءة
(٢) - هو يحيى بن سعيد الأنصاري من فقهاء المدينة استقضاه أبو جعفر المنصور ومات بالعراق سنة ١٤٣ ترجم به ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ٨٠ ترجمة ٥٨١.
(٣) - الحلواني هو أحمد بن يزيد سيأتي في الرواة.
(٤) - غاية النهاية ٢/٣٦ ترجمة ٢٦٤٢.
وقد اقترن ظهور القصيدة عند عامة من ترجموا للشاطبي بطائفة من النقول عنه تدل على موقعها من ناظمها ومن الناس، منها ما نقله السخاوي عنه من قوله عنها:
لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل بها، لأني نظمتها لله سبحانه"(١).
ونقل القرطبي ـ وهو من تلاميذه أيضا ـ أن الشاطبي ـ رحمه الله ـ لما فرغ من تصنيفها طاف بها حول الكعبة الشريفة اثني عشر ألف أسبوع(٢) كلما جاء في أماكن الدعاء قال: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب هذا البيت العظيم، انفع بها كل من قراها"(٣).
وذكر بعضهم من مناقبه المقترنة بها انه "رأى النبي ـ ﷺ ـ في المنام، فقام بين يديه وسلم عليه، وقدم له القصيدة، فتناولها بيده المباركة وقال: هي مباركة من حفظها دخل الجنة ـ زاد القرطبي ـ بل من مات وهي في بيته دخل الجنة"(٤).
ذلك بعض الرصيد العاطفي والشعوري الذي للقصيدة عند أصحاب الشاطبي ومريديه سوف نرى مقدار ما أثمر من شغف وتقدير لها، وما نشأ عنه من تعلق وتمسك بها، وذلك بعد ان نقف على أسماء رواتها الذين تشرفوا بالأخذ عن ناظمها وكان لهم إسهام في حمل مذاهبه ورواية آثاره.
أصحابه ورواة قصيدته:
(٢) - يعني جملة الأشواط السبعة التي تلزم الطائف بالكعبة فيكون قد طاف بها اثني عشر ألف طواف في كل طواف سبعة أشواط، وهو عدد عظيم يصل في مجموعه إلى ٨٤٠٠٠ شوطا، فلا أدري كم قضى الشاطبي بمكة من الزمن ليتمكن من الطواف.
(٣) - المنح الفكرية في شرح المقدمة الجزرية للملا علي بن سلطان ٨٢ـ٨٣.
(٤) - ذكره الشيخ علي بن محمد الضباع في مقدمة نشره للشاطبية ١٠٣.