فإذا كان هذا شأن الأئمة الآخذين بهذه القراءة والمتصدرين للأخذ على الرواة بها، فما سيكون عليه شأن الذين كانوا يرحلون إليهم من البلاد الأندلسية؟ لا شك أن أولئك الرواة سيعودون بوجوه شتى من الاختلاف عن ابن عامر وغيره مما يحول دون تحقيق وحدة في القراءة والأداء، وبذلك سيبقى الأمر في أمس الحاجة إلى سلوك سبيل قاصد يؤدي إلى توحيد القراءة على نمط واحد، ونحن وإن كنا لا ندري شيئا عن الجهود التي كانت تبذل في هذا الصدد في المائة الأولى التي أعقبت فتح الأندلس، فنحن نعتبر إحساس المسؤولين بوجوب البحث عن قاعدة جامعة تعطي لدولتهم طابعها المميز وصبغتها الخاصة، ولعل التفكير كان منذ البداية منصبا على مذاهب أهل الشام في الفقه والقراءة والتوجيه العام بحكم غلبة العناصر الشامية وتفوقها وانتماء البيت الحاكم إليها، إلا أن الميدان العلمي ما لبث أن عرف تحولا جذريا ف النصف الثاني من المائة الثانية موليا وجهه هذه المرة شطر المدينة المنورة بالحجاز لأسباب وعوامل سنقف عندها عن قريب، فتحول اتجاه الرحلة أو على الأصح اتسع مجالها فلم يعد يقف عند حدود الشام.
الرواة عن أهل المدينة لهذا العهد ورواد الرحلة العلمية:
وتطلعت أبصار الأندلسيين إلى الرواية عن أهل دار الهجرة والأخذ لمذاهبهم واختياراتهم والاقتداء بهم في قراءتهم وأنماط حياتهم. ولقد كانت المدينة لهذا العهد حافلة بالحلق العلمية في العلوم الإسلامية وكانت أصداء هذا النشاط تبلغ مسامع أهل العلم إلى الأندلس فتحرك هممهم وأشواقهم، ولاسيما فيما يخص الفقه والقراءة حيث كان يتصدر بالحرم النبوي الشريف مالك بن أنس إمام المذهب ونافع بن أبي نعيم إمام القراءة.
قرأ القراءات السبع سوى رواية أبي الحارث في تسع عشرة ختمة على الشاطبي، ثم قرأ عليه بالجمع للسبعة ورواتهم الأربعة عشر حتى إذا انتهى إلى سورة الأحقاف توفي الشاطبي ـ رحمه الله ـ وسمع التيسير منه، وقرأ عليه الشاطبية دروسا وسمعها عليه"(١).
وله ترجمة حافلة عند الذهبي وابن الجزري تحدثا فيها عن باقي شيوخه ومروياته من كتب الأئمة، وذكرا من أصحابه عددا كبيرا(٢).
وطريقه عن الشاطبيي من أهم طرق الشاطبية عند المغاربة وأعلاها، وعلى الاخص عند مشيخة الإقراء بغرناطة وفاس وسبتة وما إليها، فقد أسندها أبو جعفر بن الزبير (ت ٧٠٨) عن الكمال الضرير عن الناظم، ومن طريق ابن الزبير انتشرت عند الآخذين عنه كما سوف نراها عند أئمة الإقراء بالمدارس الأصولية بفاس.
وأسندها أيضا الرحالة الإمام أبو عبد الله بن رشيد السبتي (٧٢١) من طريق شيخه أبي جعفر اللبلي(٣) بسماعه لها بمصر على كمال الدين الضرير عن ناظمها سماعا"(٤).
٩- علي بن صالح القليني
ذكره أبو شامة في حوادث سنة ٦٢٧ في ذيل "الروضتين" فقال: "وجاءنا الخبر من مصر بوفاة أبي الحسن علي بن صالح القليني من قرية بمصر يقال لها قلين، وكان من أصحاب الشيخ الشاطبي، وحج مع شيخنا أبي الحسن السخاوي"(٥).
١٠- علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين أبو الحسن السخاوي الهمداني المقرئ المفسر النحوي
(٢) - غاية النهاية ١/٥٤٤ـ٥٤٦ ترجمة ٢٢٣٢.
(٣) - معرفة القراء ٢/٥٢٤ـ٥٢٥ طبقة ١٥ وغاية النهاية ١/٥٤٤ـ٥٤٦ ترجمة ٢٢٣٢.
(٤) - هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي أحد مشاهير أصحاب أبي علي الشلوبين في علم العربية، لقيه ابن رشيد في رحلته بتونس في رحلة الذهاب وأجاز له في ٢٧ ربيع الأول عام ٦٨٤ ـ ترجم له في "ملء العيبة ترجمة حافلة وذكر شيوخه ومروياته وما أجاز به من المصنفات في القراءات وغيرها ٢/٢٠٩ـ٢٥٠ ترجمة ٨.
(٥) - ذيل الروضتين لأبي شامة ١٥٨.