إذا انتقلنا بالحديث إلى الجهات الافريقية والمغربية لنواصل متابعة رصدنا لمسار الرحلات العلمية نحو المشرق، أمكننا أن نلاحظ نوعا من التحول أيضا بالنسبة إليها نحو الحجاز، وبالخصوص بعد موت عدد من كبار أعلام الكوفة وأئمتها في الفقه والحديث والقراءة كانت تشد إليهم الرحال في هذا الشأن كسليمان بن مهران الأعمش (ت ١٤٨)، وحمزة بن حبيب الزيات (١٥٦-١٥٨)، وسفيان الثوري (-١٦١) وأبي حنيفة (-١٥٠) الأمر الذي جعل الاهتمام يتوجه نحو أئمة الحجاز، وقد رأينا في الفصل الماضي جماعة من العلماء تأتى لهم الجمع بين الأخذ عن المدرسة "المدنية" والمدرسة "العراقية" معا، فكانوا بذلك بحسب ما غلب على كل واحد منهم ـ الرعيل الأول الذي مثل صلة وصل بين المدرستين وربط المنطقة بهما عن طريق ما حصله من علوم وروايات ومناهج في الفكر والعمل الفقهي، إلا أن مما يلفت النظر أن مدرسة الإمام مالك قد أخذت منذ العشرة السادسة من المائة الثانية تلقى إقبالا منقطع النظير، فكانت تجمع في روادها بين الأقطار الإسلامية من افريقية والأندلس إلى مصر والشام والعراق واليمن وخراسان وغيرها(١)، فكانت رحلة الطالب تحقق له إلى جانب أداء الفريضة وزيارة الديار المقدسة، لقاء مثل هذه الأصناف من طلبة العلم في الحلقات العديدة التي كانت تملأ رحاب المسجد النبوي.
وقد كانت حلقة نافع بن أبي نعيم في هذا المسجد لا تقل عن حلقة مالك الفقهية في الكثرة والازدحام ونوعية العارضين للقراءة عليه من أقطار البلدان الإسلامية، مما كان يتيح لمرتاد هذا المسجد أن يحصل في آن واحد على قراءة أهل المدينة وفقهها معا متنقلا بين حلقتي نافع ومالك، حتى إذا عاد من رحلته اتجه إلى ما قدر له من غلبة القراءة أو الفقه أو رواية الحديث أو نحو ذلك مما يقصده الطلاب فيه.
٢٠- محمد بن عمر بن حسين زين الدين أبو عبد الله الكردي
قال ابن الجزري: "مقرئ عالم متصدر للإقراء بجامع دمشق في زمن السخاوي، قرأ القراءات والقصيد على الشاطبي، قرأ عليه الرشيد بن أبي الدر(١) قال أبو شامة: توفي سنة ٦٢٨(٢) وتصدر مكانه بجامع دمشق للإقراء الشيخ أبو عمرو بن الحاجب"(٣)، وقد تقدم ذكرنا لشرحه على "عقيلة أتراب القصائد" للشاطبي.
٢١- محمد بن عمر بن يوسف أبو عبد الله الأنصاري القرطبي المالكي الزاهد ويعرف بابن مغايظ
قال ابن الأبار: انتقل أبوه إلى مدينة فاس فسكنها وعرف فيها بالقرطبي هو وابنه محمد هذا... ثم رحل إلى المشرق ولم يعد إلى المغرب فسمع هنالك عن جماعة منهم أبو محمد قاسم بن فيره الشاطبي الضرير المقرئ.. ونزل قاهرة مصر وحدث بها وأخذ عنه القرآن والحديث والعربية، توفي بمصر سنة ٦٢١"(٤).
وقال ابن الجزري: "إمام عالم فقيه مفسر نحوي مقرئ، ولد بعد الخمسين وخمسمائة، قرأ القراءات على أبي القاسم الشاطبي، زقرأ عليه القصيدتين اللامية والرائية، وعلى أبي محمد بن عبيد الله الحجري(٥) ويحيى بن محمد الهوزني(٦) وعبد الرحمن بن علي بن الخزاز وعلي بن موسى بن النقرات(٧) وسمع من جماعة، قال:
(٢) - الذي رأيته لأبي شامة في ذيل الروضتين ١٦٠ انه توفي سنة ٦٢٩.
(٣) - غاية النهاية ٢/٢١٦ ترجمة ٣٣١٢.
(٤) - التكملة ٢/٦١٧ـ٦١٨ ترجمة ١٦١٤.
(٥) - تقدم في المبرزين من أئمة الإقراء بسبتة.
(٦) - هو أبو زكرياء الهوزني تقدم أيضا في المبرزين بسبتة.
(٧) - نزيل فاس تقدم في المتصدرين بفاس.