وقد تحدث عياض عن جهود أولئك الرواد في الميدان الفقهي وما تكللت به من نجاح في هذا الميدان فقال: "ان افريقية وما وراءها من المغرب كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك، فاخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون(١)فغلب في أيامه، وفض حلق المخالفين"، واستقر المذهب في أصحابه فشاع في تلك الأقطار"(٢).
وتعبير عياض بقوله "فض حلق المخالفين" لا يعني بالضرورة أنهم منعوا من إقامة حلقهم ونشر مذاهبهم في الفقه والقراءة وعلوم الرواية عموما، لأن الدولة كانت يومئذ لهم، وكان أمراء بني الأغلب في أول دولتهم يناصرون مذاهبهم ـ كما أسلفنا ـ ويختارون منها "أطر" القضاء والإمامة وغيرها، الأمر الذي أدى إلى وقوع صراع حميم بين فقهاء المالكية أو "المدنيين" كما كانوا يسمون: وبين أولئك "العراقيين" في النحلة والمذهب الفقهي، حيث "كان فقهاء المالكية في جميع أقطار الشمال الافريقي وقفوا ضد تسرب مبادئ المعتزلة، بل انهم اتخذوا موقف عداء من الدولة الأغلبية لانحيازها لفقه أهل العراق ومبادئ المعتزلة"(٣).
(٢) - ترتيب المدارك ١/٢٥-٢٦.
(٣) - أسباب انتشار المذهب المالكي للدكتور عباس الجراري ـ ندوة القاضي عياض ١/١٨٠.
ويتلخص لنا من هده النماذج من أسانيد الأئمة أن اهم طرق الشاطبية في المشرق والمغرب تمر عبر هؤلاء الرواة ـ أبي بكر بن وضاح ـ والكمال الضرير علي بن شجاع ـ ومحمد بن عمر بن يوسف القرطبي ـ وأبي الحسن السخاوي ـ وهبة الله بن الأزرق ـ والسديد عيسى بن مكي ـ ومحمد بن القاسم الجمال ـ وأبي الحسين بن خيرة.
وبالمقارنة بينها يتبين أن أكثرها انتشارا طريق الكمال الضرير لأنها مشتركة بين المشارقة والمغاربة ثم طريق أبي الحسن السخاوي وأبي عبد الله محمد بن عمر القرطبي لأنها مشتركة أيضا، وأوسعها انتشارا في المغرب والأندلس طريق ابن وضاح الاندلسي لأنه دخل بها إلى الاندلس فأخد عنه الناس.
العناية بالقصيدة وأثرها في القراءة والإقراء ونبذ من آراء العلماء في تقويمها وبيان آثارها
ولعلنا من خلال ما قدمنا من عناية الأئمة بروايتها وإسنادها من الطرق المشهورة قد لمسنا جانبا من شغف الناس بها وإقبالهم عليها، إلا أننا نحب أن ننقل للقارئ الكريم نبذا من أحكام العلماء عليها وآرائهم فيها من المغاربة والمشارقة تنبيها منا على ما حظيت به منذ ظهورها قديما وحديثا من تقدير واعتبار، وها هي آراء عدد من علماء هذا الشأن تعبر عن حكمهم عليها نسوقها مبتدئين بآراء المغاربة:
آراء المغاربة في تقويم القصيدة وأثرها:
١- رأي ناظمها أبي القاسم الشاطبي:
رأينا في سياق التقديم للقصيدة كيف وصف الشاطبي عمله فيها وكيف عبر عن اعتماده فيها على كتاب التيسير، إلا أننا من خلال تدبرنا لمعاني ما ذكره نستشف من ورائه مقدار النشوة والاغتباط الذي كان يحسه نحو هذا العمل ومقدار ارتياحه له، مع ما حاول أن يظهر به من مظاهر التواضع وهضم النفس، وذلك في قوله:
"أهت فلبتها المعاني لبابها | وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا |
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره | فأجنت بعون الله منه مؤملا |
وألفاظها زادت بنشر فوائد | فلفت حياء وجهها أن تفضلا |