إلا أن سحنون قد استطاع فيما يبدو بحسن تأتيه للأمور أن يلطف من عداء المالكية للدولة، واستطاع أن يفرض لهم اعتبارا خاصا لدى ولاة الأمور، وسلاحه في ذلك حاشيته العلمية الممتازة التي كانت تقود وراءها قاعدة واسعة من طلاب العلم بالقيروان وتستأثر بإعجاب ولاة الأمر والعامة على حد سواء، ولذلك قيل في سحنون:
"كان أيمن عالم دخل المغرب، كان أصحابه مصابيح في كل بلدة، عد له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته، وانتفعوا بمجالسته"(١).
وعلى الرغم من تعدد المناهل والمصادر التي كانت المنطقة الافريقية تستقي منها لأزيد من قرن ونصف فإنه مع حاشيته العريضة هذه قد استطاع أن يحول الاهتمام إلى مذاهب أهل المدينة تحويلا سريعا وعاما، وأن يرسخ في ضمن ذلك الميل إلى جميع ما هو مدني والنفور مما سواه، بما في ذلك الأخذ بقراءتهم وتفضيلها على غيرها ولقد قيل عنه خاصة "أخذ بمذهب أهل المدينة في كل شيء"(٢)، وأنه "تأدب بأدب أهل المدينة حتى في العيش"(٣).
ففي عهد تصدره إذن - ما بين عودته من رحلته سنة ١٩١ وبين وفاته سنة ٢٤٠هـ تمت النقلة العظيمة في افريقية والجهات المغربية التابعة لها إلى مذاهب أهل المدينة، وتم وضع الأسس العتيدة لها بالمنطقة.
ونحن وإن كنا لا نجد من ربط بين هذا التحول وبين آثاره على المدرسة القرآنية هنالك، فإننا باستقراء الأحداث والاستعانة ببعض الشذرات من الإشارات في المصادر نستطيع تقدير هذه الآثار وتمثل معالمها جلية واضحة بذلك.
وأول ما ينبغي أن نستحضره هنا تلك الرسالة التعليمية التي أملاها سحنون على ولده محمد وحررها بقلمه في "آداب المعلمين"، فهذه الرسالة في نظرنا تشكل "برنامج عمل" أو المنهاج التربوي الذي رسمه سحنون وسعى بمعرفة حاشيته العلمية إلى تطبيقه وتعميمه والدعوة إليه بكل سبيل.

(١) - ترتيب المدارك ٤/٧٤.
(٢) - نفسه ٤/٥٣.
(٣) - رياض النفوس ١/٣٦٤.

٨- رأي الفقيه محمد بن الحسن الحجوي صاحب الفكر السامي (ت ١٣٧٦هـ)
قال في سياق حديثه عن الشاطبي: "كان آية في القراءات والحديث واللغة.. وله نظم حرز الأماني في القراءات ألف بيت ومائة(١) وثلاثة وسبعون بيتا، أبدع فيها كل الإبداع، سواء من جهة الفن، أو من جهة الأسلوب والرموز التي لم يسبق إليها، وهي عمدة القراء في مشارق الأرض ومغاربها، حتى أصبح حغظها قرينا لحفظ القرآن العظيم في مكاتب الإسلام، ومن حفظها وفهم رموزها حصل القراءات السبع من زمنه إلى الآن"(٢).
٩- رأي العلامة عبد الله كنون (ت ١٤١٠هـ)
قال في كتابه "أدب الفقهاء" في معرض الحديث عن الشاطبي باعتباره أحد الأئمة الذين برعوا في اختصار بعض المتون العلمية والكتب المطولة في قصائد فقال: "ومن أمثلته قصيدته "حرز الاماني في القراءات السبع" المعروفة بالشاطبية... فإنها على اختصارها في الجملة، إذ تبلغ ١٣٠٠(٣) بيت جمعت زبدة القراءات، واحتوت من ذلك على علم غزير، ولذلك نجد الكثير من أهل العلم يحفظونها، وقد خضع لها كبار الشعراء والبلغاء وحذاق أهل الرواية والقراء"(٤).
آراء المشارقة في تقويمها وبيان آثارها ومبلغ العناية بها.
١- رأي شارحها الأول أبي الحسن علي بن محمد السخاوي (ت ٦٤٣).
(١) - سقط لفظ مائة من الكتاب، فلعله خطأ في الطباعة، والصحيح ما أثبتناه كما تقدم.
(٢) - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي ٢/٢٢٨.
(٣) - كذا والصحيح ان عدد أبياتها ١١٧٣ كما ذكر مؤلفها: وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ومع مائة سبعين زهرا وكملا.
(٤) - أدب الفقهاء لعبد الله كنون ٢٠٠


الصفحة التالية
Icon