ـ وثاني ملاحظة يمكن أن نقف عندها هي هذه الدعوة من سحنون إلى اعتماد قراءة نافع في التعليم حتى نكاد نشم من عبارته أنه يريد قصر القراء والمتعلمين عليها، فها هو حين يذكر واجبات القائم بالتعليم يقول:

"وينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، وذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل، ويلزمه ذلك ويلزمه أن يعلمهم ما علم من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إن أقرأهم لغيره"(١).
فالقراءة الحسنة إذن على رأي سحنون هي قراءة نافع، وتوصيته هذه بها دليل على أنها قراءته المختارة وقراءة أصحابه، وإلا ما كان لتوصيته بها ما يزكيها من واقع الحال، وفي هذا ما يدل على أن هذه القراءة قد أصبح لها جمهور معتبر في أيام سحنون، إلا أن المنافسة ما تزال بينها وبين غيرها من القراءات، وبالأخص بينها وبين قراءة حمزة، وطالما أن الأمر كذلك فإن ما تقدم ذكره من نسبة الريادة في قراءة نافع إلى محمد بن خيرون الذي قدم من رحلته إلى مصر فنزل القيروان ـ قال ابن الفرضي ـ: "وهو الذي قدم بقراءة نافع على أهل افريقية وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ لنافع إلا خواص الناس.."(٢).
- نشر قراءة نافع وأهم روادها بإفريقية:
(١) - رسالة آداب المعلمين ص ١٠٢. وقد أبقيت لفظ "القراءة الحسنة" كما هو في النص، وأحسب أن اللفظ محرف عن "القراءة السنية" إشارة إلى ما سيأتي من قول مالك بن أنس: "قراءة نافع سنة".
(٢) - تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ٢/٧٩٩ ترجمة ١٣٩٣ ـ وتبعه ابن الجزري في الغاية ٢/٢١٧ ت ٣٣١٤.

قال في معرض عن حديثه عن القصيدة: "وما علمت كتابا في هذا الفن منها أنفع، وأجل قدرا وأرفع، إذ ضمنها كتاب التيسير، في أوجز لفظ وأقربه، واجزل نظم وأغربه، والتيسير كتاب معدوم النظير، للتحقيق الذي اختص به والتحرير، فحقائقه لائحة كفلق الصباح، وجواده متضحة غاية الاتضاح، وقد أربت هذه القصيدة عليه فزادت، ومنحت الطالبين أمانيهم وأفادت،"(١).
وقد نقل الحافظ أبو شامة في تقريظ القصيدة قوله من جملة أبيات:
هذه القصيدة بالمراد وفية من أجل ذلك لقبت حرز المنى(٢)
٢- رأي الحافظ عبد الرحمن بن إسماعيل أبي شامة الدمشقي (ت ٦٦٥).
قال في أول شرحه عليها: "ثم إن الله تعالى سهل هذا العلم على طالبيه، بما نظمه الشيخ العالم الزاهد أبو القاسم الشاطبي – رحمه الله – في قصيدته المشهورة المنعوتة بحرز الأماني، التي نبغت آخر الدهر، أعجوبة لأهل العصر، فنبذ الناس سواها من مصنفات القراءات، وأقبلوا عليها، لما حوت من ضبط المشكلات، وتقييد المهملات، مع صغر الحجم، وكثرة العلم"(٣).
وقال عند قوله: أخي أيها المجتاز نظمي ببابه ينادى عليه كاسد السوق أجملا:
"لم يكسد سوقه – والحمد لله – بل نفقت قصيدته نفاقا، واشتهرت شهرة لم تحصل لغيرها من مصنفات هذا الفن"(٤).
٣- رأي الإمام أبي إسحاق ابراهيم بن عمر الجعبري (ت ٧٣٢)
قال أول شرحه "كنز المعاني" متحدثا عن الحرز: "إذ كان مخترع الأساليب، مبتدع الأعاجيب، قليل حجمه، جليل علمه، طالما امتدت إليه أعناق المحصلين، واحتدت فيه أحداق المبرزين، من نظر بعين الإنصاف، علم أنه أحسن كتب الخلاف.. ثم قال بعد كلام مقرظا:
إذا ما رمت نقل السبعة انظر لتظفر بالمنى حرز الأماني
جزى الله المصنف كل خير بما أبداه في وجه التهاني
بألفاظ حكت درا نضيدا وقد نادت فلبتها المعاني
(١) - فتح الوصيد لأبي الحسن السخاوي (مخطوط).
(٢) - إبراز المعاني ٥١.
(٣) - إبراز المعاني
(٤) - إبراز المعاني


الصفحة التالية
Icon