إن ما قدمنا ذكره من هذا إنما يصف طورا متقدما ربما لا يتجاوز المائة الثانية، أما بعدها فقد انعكس الأمر، وأخذت قراءة نافع تفشو فشوا ظاهرا، ولم يعد يقرأ بها فحسب خواص من الناس إلى أن قدم بها ابن خيرون ـ كما يقول ابن الفرضي ـ فوفاة ابن خيرون (٣٠٦ هـ) وهي متأخرة، ونحن لا ندري زمن عودته من رحلته ودخوله بقراءة نافع، ولكننا نعرف ذلك على وجه التقريب لأنها في الثلث الأخير على الأكثر من المائة الثالثة، اعتبارا ببعض وفيات مشيخته في مصر كأبي بكر عبد الله بن سيف (ت ٣٠٧)(١)وكأبي الحسن إسماعيل النحاس المتوفى سنة بضع وثمانين ومائتين(٢)، إذ لو كان متقدم الرحلة إلى العقود الوسطى من المائة الثالثة لروى عن مشايخ شيوخه لاسيما المتأخرين من الرواة عن ورش مباشرة كيوسف الأزرق (ت في حدود ٢٤٠)(٣)ويونس بن عبد الأعلى، (ت ٢٦٤ هـ). إلا أن يكون انما أراد مستوى الإطباق عليها دون غيره مما كان يؤخذ به قبل ترسيمها واعتمادها في التعليم العام.
ونخلص من هذا إلى تأكيد انتشار قراءة نافع بافريقية قبل الوقت الذي حدده ابن الفرضي، وأن هذا الانتشار قد كان في زمن سحنون وربما في العقود الأولى من المائة الثالثة، ثم تزايد الإقبال عليها من لدن الجمهور بتدخل من السلطة القضائية لصالحها، وبالأخص على عهد ولاية سحنون للقضاء سنة ٢٣٤ هـ(٤). ثم بلغ الأخذ بها مداه على عهد المتولين للقضاء من أصحابه.
أما الريادة الأولى في إدخالها إلى الناحية فقد بدأت في عهد مبكر جدا، وخصوصا على المستوى العادي الذي يكتفي بسماع القراءة دون عرض على القارئ، على غرار ما توقعنا وقوعه لدى عامة رواد حلقات العلم في المدينة من أهل افريقية ممن رحلوا إليها زمن تصدر نافع بالمسجد النبوي الشريف.

(١) - ترجمته في غاية النهاية ١/٤٤٥ ترجمة ١٨٠٥.
(٢) - ترجمته في غاية النهاية ١/١٦٥ ترجمة ٧٧٠.
(٣) - ترجمته في غاية النهاية ٢/٤٠٢ ترجمة ٣٩٣٤.
(٤) - ترتيب المدارك ٤/٥٥.

طما آذيه عذبا وأروت... جداوله فكل عنه ثان
حلا فيه "الطويل" ولذ سمعا... فعد عن المثالث والمثاني
وقل في روضة فاحت عبيرا... وحل بمنزل خير المغاني(١)
٤- رأى الحافظ أبي عبد الله الذهبي (ت ٧٤٨).
قال في معرض التنويه بإمامته في الفن: وقد سارت الركبان بقصيدتيه "حزر الأماني" و"عقيلة الأتراب" اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لايحصون، وخضع لهما فحول الشعراء، وكبار البلغاء، وحذاق القراء، ولقد أودع(٢) وأوجز وسهل الصعب"(٣).
٥- رأي أحد أشياخ أبي محمد عبد الوهاب بن يوسف بن السلار الدمشقي قال:
أنشدني بعض الأشياخ لنفسه في مدح قصيدة الامام أبي القاسم بن فيره الرعيني الشاطبي هذين البيتين:
جلا الرعيني لنا مبدعا... عروسه البكر ويا ما جلا
لو رامها مبتكر غيره... قالت قوافيها له الكل: لا(٤)
٦- رأي الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت ٧٧٤)
قال في ترجمته:"مصنف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يسبق إليها، ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل "ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير"(٥).
٧- رأي الحافظ أبي الخير ابن الجزري صاحب النشر (ت ٨٣٣):
(١) - مقدمة كنز المعاني (مخطوط).
(٢) - كذا ولعلها أبدع.
(٣) - معرفة القراء: ٢/٤٥٧ – ٤٥٨ طبقة ١٤.
(٤) - نقله المنتوري في فهرسته لوحة ٦ – ٧ (مخطوطة الخزانة الحسنية رقم ١٥٧٨).
(٥) - البداية والنهاية لابن كشير المجلد ٧ الجزء ١٣. طبعة دار الفكر – بيروت ١٣٩٨هـ - ١٩٧٨م.


الصفحة التالية
Icon