"وذكر أبو عمرو الداني في كتابه ـ طبقات القراء والمقرئين ـ أن ابن طالب أيام قضائه، أمر ابن برغوث المقرئ بجامع القيروان، ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع"(١).
ولا يخفى ما كان لهذا الأمر القضائي في دعم قراءة نافع في القيروان وافريقية بوجه عام، إذ لا يصدر مثله عادة إلا ليأخذ طريقه إلى التنفيذ والتطبيق، كما أن مثله من الأوامر يكتسي طابع العمومية، إذ لا فائدة من إصدار أمر قضائي كهذا إلى مقرئ واحد، إلا لأحد أمرين: إما لكثرة غاشيته من العارضين والمتعلمين عليه، وإما لكون الأخذ بقراءة نافع قد غدا من الشيوع والانتشار بحيث اقتضى أن يتدخل القضاء رسميا ليطالب ابن برغوث بالاقتصار في الإقراء على ما اقتصر عليه عامة المشتغلين به على هذه القراءة وحدها، مع دلالة الخبر على أنه كان يحسن غيرها من القراءات.
ومهما يكن فقد كان لهذا المرسوم القضائي أثره البعيد في الإسراع بتعميم قراءة نافع واعتمادها قراءة رسمية جامعة، وربما كان هذا الزمن قد صادف الوقت الذي دخل فيه محمد بن عمرو بن خيرون ـ الآنف الذكر ـ بقراءة نافع من رواية ورش بطرقها المشهورة في زمنه كما سيأتي(٢).
ويمكن تحديد زمن صدور هذا الأمر القضائي على وجه التقريب بما بين ولاية ابن طالب الأولى سنة ٢٥٧-٢٥٩، وولايته الثانية ٢٦٧-٢٧٥(٣)وقبل وفاة ابن برغوث سنة ٢٧٢ كما تقدم.

(١) - ترتيب المدارك ٤/٣١٣.
(٢) - سيأتي الحديث عن ريادته في ادخال رواية ورش إلى افريقية عند ذكر المدارس التأسيسية في قراءة نافع.
(٣) - البيان المغرب ١/١١٥-١١٦ وكذا ١/١١٧-١٢١.

أ- فأما على مستوى الحفظ والتحفيظ فقد تقدم لنا من خلال آراء طائفة من العلماء مقدار العناية بذلك، كقول القاسم التجيبي السبتي: "استعمل الناس كثيرا هذه القصيدة"، وقول ابن خلدون: "وعني الناس: بحفظها وتلقينها للولدان"، وقال ابن آجروم في مقدمة شرحه عليها: "ولم أزل منذ حفظي لها مولعا بالنظر في معانيها، مغرى بتأمل مقاصدها ومناحيها". وقال العلامة ابن خلدون: "فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات"(١)، وقال أبو عبد الله المجاري في ترجمة شيخه محمد بن علي الحفار:"عرضت عليه جميعها عن ظهر قلب"(٢)، وقال ابن غازي في ترجمة شيخه أبي عبد الله الصغير:"عرضته عليه عرضا جيدا من صدري في مجلس واحد"(٣)، وذكر المنتوري عرضه لها من حفظه على جماعة منهم أبو سعيد فرج ابن قاسم بن لب وأبو عبد الله محمد بن محمد القيجاطي..(٤)، وقال أبو العباس المنجور في ترجمة شيخه أبي الحسن علي بن هارون المضغري – من أصحاب ابن غازي -: "عرضتها عليه في مجلس واحد من صدري"(٥)، وفي أسانيد الشيخ خالد البلوي(٦) في معرض حديثه عن شيخه محمد بن يحيى الحسني بتونس:"وحدثني أنه عرضها من حفظه في مجلس واحد على الأستاذ أبي العباس البطرني"(٧)، وفي أسانيد الإمام ابن مرزوق الحفيد أنه لقي أبا العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن علي بن محمد اللجائي الفاسي بتلمسان مجتازا إلى الحج فقرأ عليه بعض القرآن بمضمن التيسير وحرز الأماني.. وعرض عليه من حفظه حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد والدرر اللوامع وضبط الحراز..."(٨)،
(١) - المقدمة ٧٥٩
(٢) - برنامجه ١١٤.
(٣) - فهرسة ابن غلزي ٣٨.
(٤) - فهرسة المنتوري لوحة ٦.
(٥) - فهرس المنجور ٤٢.
(٦) - هو الشيخ خالد بن عيسى البلوي صاحب الرحلة " تاج المفرق" في مجلدين.
(٧) - تاج المفرق ٢/١٠٨ – ١٠٩.
(٨) - ثبت أبي جعفر البلوي ٣٠٦-٣٠٧..


الصفحة التالية
Icon