ولا ننسى أن ابن طالب هذا ليس إلا واحدا ممن بلغوا إلى مواقع النفوذ من أصحاب سحنون، وواحدا من عدد السبعمائة الذين ذكر أنهم انتفعوا بصحبته، ودعوته هذه إنما هي ترجمة لدعوة شيخه إلى الالتزام بالقراءة الحسنة قراءة نافع، مع فارق واحد، هو أن سحنون ذكر في توجيهاته "أنه لا بأس إن أقرأهم لغيره"(١). بينما نرى ابن طالب يأمر بالاقتصار على قراءة نافع وحدها، ولعل هذا التدرج كان ضروريا لتأخذ الأوامر مأخذها اللازم في التنفيذ.
وقد كان ابن طالب الذي أصدر الأمر القضائي بذلك يتمتع في افريقية بسلطة زائدة على غيره ممن ولي القضاء قبله، إذ كان ينتمي إلى البيت الحاكم في النسب من جهة، "وكان إبراهيم بن أحمد بن الأغلب(٢)قد فوض إليه النظر في الولاة والجباة والحدود والقصاص والعزل والولاية، فقطع المنكر والملاهي من القيروان."(٣)فهو إذن مؤهل ومخول للقيام بهذه الصلاحيات.
وننتهي من هذا إلى اعتبار زمن ولاية ابن طالب القضاء، هو بداية ترسيم قراءة نافع في افريقية، وأن دخول ابن خيرون بها في هذا العهد أو قريبا منه، إنما كان استجابة لهذه الرعاية التي لمسها في المنطقة لهذه القراءة على الخصوص لاسيما وهو غريب الدار، أندلسي النجار، إنما مر من افريقية عابر سبيل إلى مصر ليأخذ هنالك عن أساطين مدرسة ورش بها، فما لبث أن احتل مكانته الرائدة في القيروان، حتى رحل إليه القراء من الآفاق(٤).
وقد كانت الريادة قبله على مستوى أدنى لمن تقدمه في الاقراء من أصحاب نافع الذين رأينا من بينهم خاصة أبا يحيى زكرياء بن يحيى الوقار. أما الشخصية الثانية التي شاركته في هذه الريادة فهو:
٢ـ كردم بن خالد ـ أو خليد ـ أبو خالد ـ أو خليد ـ التونسي
(٢) - ينظر تاريخ ولايته في البيان المغرب ١/١١٦ـ.
(٣) - رياض النفوس ١/٤٧٦ـ
(٤) - ابن الفرضي ٢/٧٩٩.
وفي ترجمة القارئة المغربية خديجة بنت هارون بن عبد الله الدكالية أنها "قرأت القرآن بالروايات السبع، وحفظت الشاطبية، توفيت سنة ٦٩٥"(١).
وقد بلغ الاهتمام بحفظها مداه في المدرسة الفاسية عند بعض الأئمة حتى كانوا يحفظون معها شروحها، وقد عني الامام أبو العباس المنجور (٩٢٩-٩٩٥) بتتبع هذا النشاط في فهرسته، فكان مما ذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد بن مجبر المساري قوله: "كان يحفظ السبع حفظا بالغا يفوق فيه أقرانه، يستحضر نصوص "حرز الأماني" ولا يحتاج إلى أن ينظر "التيسير"(٢) و"وإنشاد الشريد"(٣) أو غيرهما"(٤). ويقول فيما قرأ عليه "ومن الشاطبية الكبرى بلفظي إلى سورة الأنعام كنت أقرؤها عليه بين المغرب والعشاء بجامع القرويين، ينقل عليها من "الجعبري"(٥).
ولو ذهبنا نتتبع مثل هذه العناية بتحفيظها في المشرق لطال بنا المدى، ولعل أبلغ عبارة وأجمعها هي ما عبر به عن ذلك الإمام أبو العباس القسطلاني في قوله: "إن أهل مصر كثيرا ما كانوا يحفظون "العنوان"(٦) حتى ظهرت الشاطبية"(٧).
(٢) - في فهرس المنجور " التفسير" وهو تحريف لا يناسب السياق.
(٣) - هو إنشاد الشريد من ضوال القصيد لأبي عبد الله بن غازي وسيأتي في شروح الشاطبية وما في معناها.
(٤) - فهرسة أحمد المنجور ٦٤.
(٥) - فهرسة المنجور ٦٥، ويعني بالنقل من الجعبري كتابه " كنز المعاني" على الشاطبية وسيأتي.
(٦) - لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني ١/٨٩ وقد تقدمه ابن الجزري إلى ذلك في منجد المقرئين ص ٥٣.
(٧) - يريد بالعنوان كتاب " العنوان في القراءات السبع " لأبي الطاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي وقد تقدم التعريف به في مدارس الأقطاب.