ذكره ابن مجاهد في الرواة عن نافع في أول كتاب السبعة وقال: "وكردم رجل من أهل المغرب"(١). وذكره الذهبي في أصحاب نافع(٢)، وقال ابن الجزري: "قدم المدينة وعرض على نافع، وكان زاهدا عابدا فاضلا"، روى عنه أحمد بن جبير الأنطاكي(٣)، وقال الداني: "لا أعلم روى عنه أحد غيره"(٤).
وقد كان معدودا في العشرة المشهورين بالنقل عن نافع ـ كما سيأتي ـ إلا أن ضياع أخباره قد حرمنا من معرفة نشاطه في القراءة والإقراء سواء في المناطق الافريقية أم غيرها.
بقي أن نشير إلى أن هذا العصر ـ أعني المائة الثالثة ـ قد شهد احتكاكا واسعا بالمدرسة المصرية التي كانت حافلة بأعلام الرواية عن أبي سعيد ورش وأصحابه، وأن هذه الرواية قد دخلت إلى افريقية على أيدي رجال المدرسة المدنية أيضا، إذ كانت الرحلات العلمية بعد موت مالك وأعلام أصحابه بالمدينة قد اقتصرت في الغالب على مصر، وكان بها جماعة كبيرة من أئمة الرواية عن مالك وأصحابه كابن القاسم وابن وهب وأشهب وأصبغ وعبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم ويونس بن عبد الأعلى وأحمد بن صالح وغيرهم والثلاثة المتأخرون كانوا من أعلام مدرسة ورش في مصر، فكانوا مقصودين في فقه المذهب والقراءة معا، وكانت الرحلة من افريقية والأندلس إليهم، ولاسيما يونس بن عبد الأعلى الذي تأخرت وفاته إلى سنة ٢٦٤ هـ، وسيأتي لنا الحديث عن هؤلاء الرجال وآثارهم في العدد الموالي بحول الله.
الريادة في الجهات المغربية الداخلية

(١) - السبعة في القراءات ٦٤.
(٢) - معرفة القراء ١/٩٠.
(٣) - تقدم.
(٤) - غاية النهاية ٢/٣٢ ترجمة ٢٦٣١.

ب – واما على مستوى اعتمادها في القراءة والأداء فقد حظيت الشاطبية كما حظي أصلها قبلها وهو "التيسير" بما لم يحظ به في هذا العلم كتاب، وذلك سر توافر نسخها حتى اجتمع عند بعضهم منها نحو ألف نسخة، وسر تنافس الناس فيها ورغبتهم في اقتناء النسخ الصحاح منها، وعلى الأخص منها ما كان بخطوط بعض الأعلام.
فأما في المشرق فقد سيطرت سيطرة مطلقة في ساحة الأقراء، وكان أسبق البلدان إلى هيمنتها فيه مصر والشام فقد كان أهل مصر – كما قدمنا – يقرأون السبع ويحفظون كتاب العنوان لأبي الطاهر مع مخالفته لكثير مما تضمنته الشاطبية(١)، فلما ظهرت انصرفوا إليها وأغناهم ما فيها عن غيره فتشبثوا بها، ثم سرى ذلك إلى جيرانهم فانتشر الأخذ بها في الشام والعراق وما وراءها بسرعة متناهية، ومن مظاهر ذلك ما حكاه ابن الجزري في ترجمة محمد بن محمود الطوسي الذي دخل الشام بعد أن طرقها التتار فتوجه نحو دمشق "واجتمع بأئمتها وذلك في حدود ٦٢٠هـ، وعاب عليهم كونهم لم يعرفوا سوى الشاطبية وطرقها"(٢).
ومعنى هذا أن الشاطبية قد هيمنت على الميدان بالشام ولم يمض على وفاة ناظمها أكثر من ثلاثين سنة.
وذكر ابن الجزري أيضا بالنسبة للعراق وما وراءها أن فتنة التتار هذه كانت من أسباب ترك أهل العراق لما كان معروفا عندهم من قراءات – قال – وكذلك شأن غيرهم من بلاد العجم وما وراء النهر، فإن فتنة "الجنكزخانيين" قد أودت بحياة الكثير من أهل القراءات، "ولولا ما وقع من ذلك لما اشتهر فيها الشاطبية ولا التيسير كما هو معلوم عند المحققين"(٣).
وكان من مظاهر الحذق عند علماء القراءة بالشام والعراق التمكن من معرفة مقاصد الشاطبي في بعض الأبواب التي تتضمن مسائل دقيقة، وكانوا يمتحنون الواردين عليهم في ذلك.
(١) - منجد المقرئين لابن الجزري ٥٣.
(٢) - غاية النهاية ٢/٢٥٩ ترجمة ٣٤٥٧.
(٣) - منجد المقرئين ٥٣.


الصفحة التالية
Icon