أما الجهات المغربية الداخلية فالريادة فيها في هذه القراءة غير معروفة لأحد على سبيل التعيين، ولكنها مع ذلك كانت تستفيد من الجهات الإفرييقية بحكم تبعيتها لها بعد الفتح وحركة التواصل التي ظلت قائمة بينها، الأمر الذي كان يجعل الحديث عن افريقية والقيروان حديثا في الوقت نفسه عن امتداداتها في هذه الأقاليم، إلا أن قاعدة المغرب يومئذ كانت تستقطب إليها كل نابه ينبغ في علم من العلوم فينسب إليها دون بلده أو جهته.
ولقد عرف المغرب الأقصى بعد المائتين أفواجا من الأندلسيين والقرويين يمكن أن تحمل معها إليه نصيبا من التأثير في هذا المجال، من أهمها نزوح جالية كبيرة إليه على إثر "ثورة الربض" بقرطبة، وهي ثورة قامت بالربض الشرقي منها ضد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل لأمور نقمها عليه أهله، وكان عامة من خرج عليه من أهل العلم والديانة "فأوقع بهم الواقعة المشهورة، وهدم ديارهم ومساجدهم"(١)وقد كانت الحركة الأولى سنة ١٨٩هـ، وهي حركة منيت بالفشل إذ ظفر الحكم بمدبريها وصلب منهم اثنين وسبعين من رؤوس أهل العلم وكان من بين المصلوبين من الفقهاء يحيى بن مضر ـ الذي سبق ذكره في الرواة عن مالك ــ، وهرب من المشتركين فيها يحيى بن يحيى الليثي وطالوت بن عبد الجبار وعيسى بن دينار وهم أعلام المالكية في عصرهم(٢).
ثم كانت الحركة الثانية سنة ٢٠٢هـ ضد الحكم نفسه، فكان نصيبها كسابقتها، فقتل فيها وصلب جماعة "وتفرق أهل الربض في جميع أقطار الأندلس، ومنهم من جاز البحر إلى العدوة بالأهل والولد، فاحتلوا بعدوة فاس، فهم عدوة الأندلس منها، فصيروها مدينة"(٣).
النازحون من الأندلس والقيروان إلى المغرب لهذا العهد وأثرهم العام:
(٢) - شيوخ العصر في الأندلس للدكتور حسين مؤنس ٢٢.
(٣) - البيان المغرب ١/٧٧.
ومن الأمثلة التي ساقها ابن الجزري في بعض التراجم ما جرى من امتحان في دمشق لشغل منصب كرسي الإقراء الذي خلا يومئذ بموت متوليه بها أبي الحسن السخاوي ـ صاحب الشاطبي ـ ثم موت خلفه الفخر ابن المالكي عن قريب من ولايته "فوقعت المنافسة على هذا الكرسي بين أبي الفتح محمد بن علي الأنصاري الدمشقي أجل أصحاب السخاوي، والعلامة أبي شامة المقدسي صاحب السخاوي أيضا، إذ كان من شرط هذا المنصب أن يكون متوليه أعلم أهل البلد بالقراءات، فحضر الشيخان عند ولي الأمر، فقيل من ينصف بينهما؟ فوقع التعيين على الشيخ الامام علم الدين القاسم اللورقي ـ من شراح الشاطبية كما سيأتي ـ فحضر وقال: أنا أسألكما شيئا، فليكتب كل منكما عليه، فسألهما عن قول الشاطبي ـ رحمه الله ـ في باب وقف حمزة وهشام:
وفي غير هذا بين بين ومثله | يقول هشام ما تطرف مسهلا |
وكتب عليه أبو الفتح ما يتعلق بالوقف على الهمز فقط، قال: فلما وقف الشيخ علم الدين القاسم اللورقي على كلاميهما قال عن أبي شامة: هذا امام من أئمة المسلمين، وقال عن أبي الفتح: هذا مقرئ. قال:
وكان لولي الأمر ميل إلى أبي الفتح، فقال: ما المقصود إلا المقرئ، ثم رسم بها لأبي الفتح، قال: فلما خرجوا خرج أبو شامة وهو ينفخ، وقال للشيخ علم الدين: ياشيخ
ذبحتني، فقال، والله ما قصدت لك إلا خيرا، وما علمت أنهم إلى هذا الحد من الجهل في فهم كلامي"(١).