ولقد كان لهؤلاء الفارين من قرطبة من أهل الربض من الوقع والأثر في المواطن التي نزلوها ما قيل معه: "لم يخرج منهم طائفة بناحية من نواحي الدنيا إلا وتغلبوا عليها واستوطنوها على قهر من أهلها، وأكثر من هرب من أهل العلم والخير، ممن أتهم أو خاف على نفسه، إلى ناحية طليطلة، ثم أمنهم الحكم، وكتب لهم أمانا على الأنفس والأموال، وأباح لهم التفسح في البلدان حيثما أحبو ا من أقطار مملكته، حاشا قرطبة أو ما قرب منها"(١).
والذي يهمنا هنا من هذه الواقعة هو ما ترتب عليها من نزوح نحو من ثمانمائة أسرة من قرطبة إلى فاس وفيهم بلا شك عدد كبير من أهل العلم بالفقه والحديث والقراءة وغير ذلك، فأوسع لهم المولى إدريس الأصغر جنابه بمدينته الجديدة فاس، وأذن لهم في النزول فأسسوا بها عدوة الأندلس التي كان لها أثر كبير في المد الحضاري في هذه المدينة والإسراع بتعريب أهلها، كما يمكن أن يكون في أولئك النازحين طائفة ممن حملوا معهم قراءة نافع حسب الرواية التي كان عليها الناس لهذا العهد بقرطبة، وهي رواية الغازي بن قيس عنه، وهذا أمر لا ينبغي أن يسقطه من الحسبان والاعتبار من يريد الحديث عن المسار الذي عبرت منه هذه القراءة إلى الديار المغربية قبل استقرارها وانتشارها واعتمادها قراءة جامعة بصفة رسمية.
وأما الحدث الثاني الذي يمكن أن يكون قد صحب معه تأثيرا مماثلا في هذا الصدد، فهو نزوح أفواج أخرى من أهل القيروان إلى المغرب ونزولهم بمدينة فاس، حيث أسسوا بها العدوة المنسوبة إليهم "عدوة القرويين"، وذلك بعد سنة من تأسيس "عدوة الأندلس"(٢). ولا يخفى ما كان بين العدوتين من تنافس شمل جميع المجالات وعم جميع الميادين، الأمر الذي جعل المدينة بعدوتيها ملتقى للمؤثرات وللحركات العلمية القائمة في الأندلس وافريقية على السواء.

(١) - نفس المصدر والصفحةـ.
(٢) - المصدر نفسه ١/٢٣٦ ـ والأنيس المطرب بروض القرطاس لابن أبي زرع ١٨٠.

وقد أدى الأمر بسبب هذه السيطرة المطلقة من لدن الشاطبية على ميدان الاقراء إلى أن ساد عند عامة الناس الاعتقاد بكونها مع أصلها "التيسير" قد اشتملا اشتمالا كليا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وأن ما عداهما شاذ لا تجوز القراءة به لخروجه عن الأحرف السبعة المأذون في القراءة بها.
ويتجلى هذا الاعتقاد واضحا في السؤال الذي وجه إلى أثير الدين أبي حيان محمد بن يوسف الغرناطي في مصر في هذا الشأن والذي جاء فيه: "ما يقول الشيخ العالم العلامة شخ وقته وفريد دهره... فيما تضمنه "التيسير" و"الشاطبية"، هل حويا القراءات السبع التي أشار إليها النبي ـ ﷺ ـ أم هي بعض من السبعة؟ ؟ وقد بسط ابن الجزري جواب أبي حيان في كتابه منجد المقرئين"(١).
ولقد كان هذا الاعتقاد السائد عند عامة أهل عصر ابن الجزري ومن تقدمهم هو الذي حدا به إلى تأليف كتابه القيم "النشر في القراءات العشر" إذ جاء في تقديمه له قوله:
"وإنما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير، وأنها هي المشار إليها بقوله ـ ﷺ ـ "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، حتى إن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ وربما كان كثير مما لم يكن في الشاطبية والتيسير وعن غير هؤلاء السبعة أصح من كثير مما فيهما"(٢).
(١) - منجد المقرئين ٢٥-٢٩.
(٢) - النشر ١/٣٦.


الصفحة التالية
Icon